يخطئ من يظنّ أن الوطن أمجاد الماضي فقط.. إنما الوطن وديعة المستقبل في الحاضر ..

إنَّ الموظّف العام وسيلة الدولة لممارسة نشاطها ، فبعد تخلّيها عن فكرة الدّولة الحارسة، لم يعد واجب الدولة مقصوراً على الرقابة و الحفاظ على النظام الإجتماعي، بل دخلت مطلق الميادين الإقتصادية والإجتماعية.. فكانت الوظيفة العامة خدمةً إجتماعية، حيث الدخول إليها ليس بعشوائيٍّ، إذ حرصت قوانين الخدمة المدنيّة في دول العالم على وضع شروط للتعيين في الوظيفة العامة.

في العام 2017 صدر قانون رفع الحد الأدنى للرواتب والأجور ..وإعطاء زيادة غلاء معيشة للموظفين والمتعاقدين والأجراء في الإدارات العامة.. رقم 46/2017 تم نشره في الجريدة الرسمية عدد رقم 37 تاريخ 21/8/2017 جاءت المادة 21 منه بحرفيتها تنص على أنه : ” تُمنع جميع حالات التوظيف والتعاقد بما فيها القطاع التعليمي والعسكري بمختلف مستوياته واختصاصاته وفي المشاريع المشتركة مع المنظمات الدولية المختلفة إلا بقرار من مجلس الوزراء بناءً على تحقيق تجريه إدارة الأبحاث والتوجيه.
على الحكومة إنجاز مسح شامل يبيِّن الوظائف الملحوظة في الملاكات والوظائف التي تحتاج إليها الإدارة للقيام بالمهام الموكلة إليها، وتحديد أعداد الموظفين والمتعاقدين والعاملين فيها بأي صفة كانت، وتحديد الحاجات والفائض والكلفة الحالية والمستقبلية للموارد البشرية بما في ذلك كلفة إنهاء الخدمة بما يتيح تقدير النفقات المتوسطة الأجل واقتراح الإجراءات الملائمة لتقليص وضبط وإرشاد كتلة الإنفاق على الرواتب والأجور وملحقاتها .
على الجهات المكلفة من مجلس الوزراء من القطاعين العام والخاص إنجاز المهمة في مهلة لا تتجاوز ستة أشهر وإنجاز التوصيف الوظيفي في إطار هيكلة الإدارة وتقديم تقرير إلى مجلس الوزراء لإقراره مع نسخة توجه إلى مجلس النواب.”

إنّ ما يُحكى عن حشو ما يقارب خمسة آلاف شخص في الملاك العام، بطريقة التوظيف العشوائي وتغييب دور مجلس الخدمة المدنية، منع وجود إحصاء رسمي لعدد العاملين في القطاع العام..
بعض الإحصاءات غير الرسمية التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام تنبئ عن توظيف ما يقارب 300 ألف شخص موزعين على الإدارات العامة والوزارات والبلديات،وهذا إن صحَّ، فإنه يوازي ربع القوى العاملة، وهذا رقمٌ يتخطى العتبة العالمية.

إنَّ ما كرّسه القانون 47/2017 هو بالأصل منشؤه المرسوم الإشتراعي رقم 112 الصادر في 12/6/1959 المعروف بنظام الموظفين الذي خلق الهيكلية الإدارية والقانونية للوظيفة العامة في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب سواء بالنسبة للموظفين الدائمين، كما للموظفين المؤقتين، المتعاقدين والاجراء..
حيث لكل ادارة، ملاك يحدَّد فيه عدد وظائفها الدائمة من كل فئة .
وفي قراءة معمَّقة للمرسوم الإشتراعي 112/1959 نجد أنه يعود لهيئة مجلس الخدمة المدنية شروط التعيين في فئات الوظائف العامة الخامسة والرابعة والثالثة .. وبناء على امتحان تنظمه ادارة الموظفين في مجلس الخدمة المدنية. ووفقاً للمادتين السادسة والثامنة من النظام، يعود لمجلس الخدمة المدنية وضع لائحة بالمرشحين الذين يستوفون شروط الإشتراك في المباراة أو الامتحان . ولا يقبل قراره الطعن بما في ذلك طلب الابطال لتجاوز حد السلطة .
على أن تستفيد لائحة الناجحين مفعولها بانتهاء مدة السنتين
أما فيما يخص شروط التعيين في الفئة الثانية :
فقد نصت المادة 11 من المرسوم 112/1959 المعدلة وفقاً للمرسوم رقم 58 تاريخ 15/12/1982 والقانون رقم 222 الصادر في 29/5/2000 ، على أنه : تملأ المراكز الشاغرة في الفئة الثانية بالاختيار بين موظفي الدرجتين الأولى والثانية من الفئة الثالثة الذين أنهوا بنجاح دورة تدريبية في معهد الإدارة العامة وأدرجت اسماءهم في جدول الترفيع . ويصنفون في الدرجة الأخيرة من الفئة . ويحتفظون بحقهم في القدم المؤهل للترقية اذا تم تصنيفهم براتب يوازي راتبهم الأصلي .
ويمكن لهيئة المجلس أن تعفي من شرط الدورة التدريبية المذكورة الموظفين الذين انهوا بنجاح دورة تدريبية في الشؤون الادارية لا تقل مدتها عن ستة أشهر متواصلة في أحد معاهد الادارة العامة في الخارج وكانوا موفدين الى هذه المعاهد بمنح تخصص وفقا للاصول على ان يقترن هذا الاعفاء بموافقة مجلس الوزراء.
كما، و يمكن ملء المراكز الفنية الشاغرة في الفئة الثانية عن طريق مباراة يحق الاشتراك فيها لموظفي الفئة الثالثة ولمرشحين من خارج الملاك ، على ان يجيز نظام الوزارة ذلك أو أن تقرر الأمر هيئة مجلس الخدمة المدنية بناء على اقتراح الادارة المختصة ويشترط في المرشحين جميعا ، سواء اكانوا من الموظفين ام من خارج الملاك ان يكونوا من حملة الشهادات الجامعية او ان يكونوا من ذوي الخبرة في نوع العمل المطلوب في الادارة المختصة .
على أن يتم تعيين موظفي الفئة الثانية بمرسوم بعد موافقة هيئة مجلس الخدمة المدنية، ولا تطبق عليهم شروط التمرين .
بالمقابل فإن شروط التعيين في الفئة الأولى بحسب منطوق المادة 12 من المرسوم المعدلة وفقا للمرسوم رقم 3169 تاريخ 29/4/1972 ،يكون: حيث تملأ المراكز الشاغرة بالاختيار من بين موظفي الدرجات الثلاث العليا من الفئة الثانية المدرجة اسماؤهم في جدول الترفيع
إلا أنه يجوز ، بصور إستثنائية ، أن يعين في الفئة الأولى أشخاص من خارج الملاك ، بعد استطلاع رأي مجلس الخدمة المدنية ، على أن يكونوا من حملة الإجازات الجامعية ويعتبرون مثبتين فور تعيينهم ، ولا يطبق هذا التدبير الا بنسبة الثلث في الوظائف الشاغرة في الفئة الاولى على أن يكون تعيين موظفو الفئة الاولى بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء.

تبقى القاعدة الأساس في خضم هذا التفصيل، التي نصت عليها المادة 13 من المرسوم 112/1959 :حيث
” لا يعيَّن أحد الا في وظيفة شاغرة في الملاك ، ومرصد لها اعتماد خاص في الموازنة ، ووفقًا للأصول التي يحددها القانون .. كما و تبلّغ نصوص التعيين الى مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة .”

وهنا فلنعد قليلاً لما تضمنته موازنة العام 2018 حيث بلغت كلفة العاملين حوالي ستة مليارات دولار ،منها حوالي المليارين تكلفة المتقاعدين المقدّر عددهم نحو ثمانين ألفاً
أما المفاجأة المدوية طبقاً لحسابات سريعة فإن مجموع إيرادات الدولة اللبنانية لا تتعدى 13 مليار دولار، أي بتبسيط حسابي فإن ما يقارب ال 46 بالمئة من إيرادات الدولة تصرف للعاملين في القطاع العام.

ولأن كانت طفرة التوظيف في الإدارات العامة قد فاضت من الفئات الخامسة والرابعة والثالثة للموظفين الدائمين في هذه الفئات حيث كان لتغييب دور مجلس الخدمة المدنية السبب الرئيسي الذي فتك بميزان التوظيف في الإدارات العمومية.

فما جزاء التعيين في الوظائف غير الشاغرة؟

لقد لحظ المرسوم 112/1959 جزاء للتعيين في الوظائف غير الشاغرة في الملاك أو في وظيفة لم يرصد لها اعتماد خاص في الموازنة إذ يحظر على كل من المصفّي والآمر بالصّرف تصفية النفقة الناجمة عنه وصرفها حتى ولو وردهما أمر خطي بذلك ، وعلى الآمر بالصّرف أن يبلّغ الامر الى وزير المالية والى مجلس الخدمة المدنية لاجل العمل على الغاء نص التعيين … حيث يتعبر والحالة غير نافذ ، ولايترتب لصاحب العلاقة اي حق مكتسب من جرائه حتى يستصدر من المرجع القضائي المختصص قرارا مبرما بقانونيته.

هذا بالنسبة لحالات التوظيف في ملاكات الموظفين الدائمين فماذا بالنسبة للموظفين المؤقتين، المتعاقدين والأجراء ، و شروط تعيينهم ..؟
هنا لحظ المرسوم 112/1959 مع تعديلاته بأنه على الإدارة تقدير الحاجات بأن تضع بيانا بعدد الوظائف الموقتة التي تحتاج اليها ، وبراتب كل وظيفة منها ، وبالأسباب الموجبة الى إحداثها ، وبمشروع النظام الذي يجب ان تخضع له . وتحيل هذه المستندات على مجلس الخدمة المدنية ، فتدرسها ادارة الابحاث والتوجيه وتبدي رأيها فيها، مستعينة اذا اقتضى الأمر بادارة التفتيش المركزي لاجراء تحقيق في الادارة المختصة يبين حاجاتها الحقيقية الى موظفين جدد وما اذا كان في الإمكان سدّ هذه الحاجات عن طريق نقل موظفين يعملون في الادارة نفسها او في غيرها ، او عن طريق اعادة تنظيم الدائرة المعينة او بغير ذلك من الوسائل .
وهنا لهيئة مجلس الخدمة المدنية أن تتخذ قرارا في طلب الادارة المختصة فاذا وافقت عليه ، اعيد الملف الى هذه الادارة لكي تحضر الاجراءات القانونية اللاحقة ، واذا ردته كليا او جزئياً وجب العمل بقرارها وذلك على ما تنص عليه المادة 74 من المرسوم 112/1959 حيث لا تُطلَب الاعتمادات اللازمة لإحداث الوظائف الموقتة في الموازنة السنوية او بموجب قوانين خاصة الا بعد استكمال تلك الاجراءات والشروط.

ناهيكم عن أنَّ إحداث الوظائف المؤقتة يتم بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء في حدود الإعتمادات المرصدة لهذه الغاية ، ويرفق بالمرسوم نظام هذه الوظائف كما وافقت عليه هيئة مجلس الخدمة المدنية .
على أنَّ تعيين الموظفين الموقتين يتم حيث تضع ادارة الموظفين في مجلس الخدمة المدنية ، عن طريق المباراة أو الإمتحان أو بغير ذلك من الطرق التي ينص عليها نظام الوظائف الموقتة ، لائحة بالاشخاص الذين يستوفون شروط التعيين المفروضة ، ويعين هؤلاء بمرسوم .
وإن الإدارات العامة قد تلجأ أحياناً للتعاقد، حيث أتت المادة 86 من المرسوم 112/1959 تنص أنه تطبق في تقدير حاجات الدوائر الى متعاقدين وفي طلب الاعتمادات اللازمة لهم ، احكام المادتين 74 و75 من هذا المرسوم الاشتراعي.
كما وإنَّ الأجراء يستخدمون من قبل الإدارة العامة وفقاً للأنظمة الخاصّة التي تعدها هذه الإدارة وتوافق عليها هيئة مجلس الخدمة المدنية وتطبق عليهم الأحكام القانونية المتعلقة بطوارئ العمل..

ولمجلس الوزراء سلطة حلّ أي خلاف بين مجلس الخدمة المدنية والوزارة المختصة فيما يتعلق بتطبيق أحكام المرسوم الاشتراعي 112/1959

ماذا في حال كساد التوظيف العشوائي عبر التعاقد ؟

نصَّ المرسوم 112/1959 على أنه اذا زاد عدد الموظفين العاملين في ادارة ما على عدد الوظائف المحددة لهذه الإدارة في الملاكات العددية فعليها وبعض وضعها تقريرا بذلك، يعين رئيس الوزارة ، بناء على اقتراح رئيس مجلس الخدمة المدنية ، ورئيس ادارة التفتيش المركزي لجنة أو لجاناً تتولى القيام بدراسات في داخل الوحدة الادارية التي تعينها الوزارة المختصة أو هيئة مجلس الخدمة المدنية أو هيئة التفتيش المركزي او مجلس الوزراء ، وتتناول هذه الدراسة المهام الموكولة الى الوحدة الادارية المعنية من جهة ، وعدد الموظفين اللازمين للقيام بهذه المهام وكفاءاتهم العلمية والمسلكية من جهة ثانية بغية ان تحدد الوظائف الفائضة .

مما لا شك فيه وبناءً على ما تقدم أعلاه، أراد المشترع صراحة ودون تبريرات أو تحوير إسناد الكلمة الفصل لمجلس الخدمة المدنية حتى للقيام بأي تعاقد وظيفي لمراعاة الموازين الرقمية بين حاجة الإدارة للكفاءة والنوعية وحجم التوظيف في إطار الموضوعية والشفافية ووضع حد للمحاصصة، الزبائنية والتسييس، حيث نهضة الإدارة العامّة تكون بكفاءتها.
فلا يزال القطاع العام يواجه تحديات في مجال الموارد البشرية في عدد من الجوانب، خاصة مع عدم وجود الشفافية في عمليات التوظيف، والتقييم، بغياب مبادئ توجيهية مؤسسية في المؤسسات الحكومية والعامة فيما يتعلق بإدارة الموارد البشرية.

وفي الختام، إن كان العجز في الموازنة يعني أن الإنفاق يفوق الإيرادات، فسياسة التوظيف في الدولة اللبنانية هي سياسة غير رشيدة تفوق قدرة الخزانة العامة على التحمّل حيث يُفرض على الدولة الإستدانة لدفع الأجور لموظفيها، بدل الإنفاق على ما هو أمسّ حاجة للوطن.