نحن نجني اليوم ثمار الإقتصاد الرَّيعيّ الذي حطّ رحاله منذ نصف قرن عطّل خلالها المبادرة الفردية بعد أن شجّع على الخدمات ‏الماليّة والعقاريّة، ذات العائدات السّريعة والمرتفعة بدلاً من تحفيز المشروعات الإنتاجيّة في القطاعات الزّراعية والصناعيّة والتجاريّة والسياحيّة الواعدة ذات القِيَم المُضافة كما عَهَدها تاريخنا القومي..فالاقتصاد الذي يقوم على الأسواق المالية والودائع المصرفيّة وكذلك على سوق العقارات هو ‏اقتصاد ريعيّ هَشّ ليس بمقدوره تحقيق إستمرارية النّمو فتعجز قدرته على زيادة الناتج ‏المحلّي الإجمالي وانتهاج سياسة مكافحة البطالة وخفض نسبها. إنَّ السّبب الرّئيسي يرجع لعدم تمكن هذا النوع من الإقتصاد الذي تغرق به الدول النّامية من خلق دورة إقتصاديّة منتظمة ومتكاملة كما يذهب لتركيز الثروة بيد عدد قليل من المستثمرين ما يلغي الطبقة الوسطى الضامنة ويفشّي البطالة وهجرة الطّاقات الشّبابيّة. أصاب الشّاعر إبن دريد بقوله “من لم تُفِده عِبر أيامه كان العمى أولى به من الهُدى” فلنعد إلى تاريخنا ولنتعظ قليلاً، فإنَّ صمود لبنان في أعتى العصور ظلماً وتضييقاً كان نتاج قدرة أجدادنا وكفاحهم في الإنتاج والتصنيع والتموين والتسويق.. لِمَ نتناسى أن سهل بقاعنا سُمِّي قبل عصور طويلة بإهراءات روما..؟! لقد قام أجدادنا منذ الفينيقيّين باستغلال مواردهم الاقتصاديّة، حتّى لا يشتروا من الخارج على الرّغم من اهتمامهم بالتّجارة.فاشتهرت خمور فينيقيا في الخارج حيث باعت قرطاجة بنت صور خمورها اللّذيذة لروما. كما أصَّل الفينيقيون شجرة الزّيتون واستعاضوا بإنتاجهم عن الاستيراد ولا ننسى الصّباغ الأرجواني الذي احتكرت صناعته صيدون و صور.
وإبّان الحكم الرّوماني يقول فيليب حتّي أنه “كان في بيروت وصور أنوالٌ يهيّأ بواسطتها الحرير الخام لصبغه بالأرجوان وكان الحرير الأرجواني اغلى انواع الحرير “ وفي عهده شجّع الأمير فخر الدين الزّراعة ودعا إلى تحسينها، واستقدم الفلاحين من إيطاليا لتدريب الفلاحين اللبنانيين على أساليب زراعية جديدة فنمت زراعة الزيتون، والقطن، والحبوب وأشجار الفاكهة وعمّت أشجار التّوت السّهول السّاحلية من صيدا إلى طرابلس و سفوح الشوف و المتن و مناطق جبيل و البترون و جبّة بشرّي و التي اعتمدت عليها صناعة الحرير.
كذلك نشطت الصّناعة البيتيّة اليدويّة في عهد الأمير فخر الدين. فكان الحرير عماد ثروة البلاد، تلته الصناعات المستخرجة من الزيتون:كالزيت والصابون، الذين بلغت جودتهما مستوى رفيعاً.ونشطت التجارة في تلك الحقبة لسببين: تسهيل أعمال التجار الأجانب وحمايتهم، وتأمين الشواطئ من القراصنة. إلى أن أضفى الأمير بشير الثاني الشهابي في عهده حافزاً على ازدهار الحياة الاقتصادية، بقطاعاتها الثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة. وازدادت جودة الحرير، لازدياد العناية بتربية دود القزّ، واكتساب الخبرة في تحسين صناعته. وقد تكاثر إقبال التجار الأوروبيين و السوريين و المصريين على شرائه، واتسعت الحركة التجارية في لبنان، فكانت السّفن الآتية من مرسيليا وجنوى
والبندقيّة وإنكلترا ترسو في المرافئ اللبنانية وخاصة صيدا وبيروت، لتفرغ حمولتها، وتحمل مكانها الحرير والصّابون وغيرهما.
ماذا لو كان اقتصاد لبنان في خضمّ الحرب العالمية الأولى ريعياً ؟
طبعاً لمات سكّان لبنان من الجوع، لكن اعتماد اللبنانيين على سواعدهم وهمّتهم جعل من لبنان مأوى للمضطهدين في المنطقة ولم يزل.. إلى أن تحوّل اقتصادنا تدريجياً للريعية بعدما حوّل أعداء لبنان بضربهم مرافقه الصناعية، إلى بلد استهلاكي رغَّب شعبه ركوب الحضارة المعاصرة ممسكاً بذيلها بعدما كان صانعها. تحوَّل لبنان نحو الخدمات مع صدور التشريعات المصرفيّة منذ ستينات القرن الماضي ومع دخول لبنان في صراعات ومشاكل داخلية وحروب الداخل والخارج على أرضه ما ارتضى بالريعيّة أسلوب حفّز صغار المستثمرين على الذّهاب نحو الخدمات التي قدّمها السّوق المالي فخارت عزيمة الإنتاج وبذل الجهد.. واستكمل اقتصاد الخمول بتنامي عادات الخمول وظهر وباء النّرجيلة الذي فتك بهمّة الشّباب المعاصر ففضّلوا الوظيفة السّهلة والاستهلاك والإستدانة من أجل المزيد من الإستهلاك بديلاً عن الإستثمار ببذل الجهد والإنتاج.. فصار مجتمعنا سوقاً إستهلاكياً بامتياز وأسير هذا الوباء الاقتصادي .المُشِلّ التاريخ عِبَرٌ، تُعلّم البَشر دروساً، تجعلهم أكثر وعياً وأقدر على اتخاذ الخطوات المناسبة، فالّذين لا يتذكرون الماضي محكومٌ عليهم الوقوع بأخطائهم. فلنعد للإقتصاد الإنتاجيّ، حيث خلاص لبنان يكون بسواعد شبابه وتحفيزهم على الإنتاج والإستثمار لدخول مشروعات تقيهم شرّ الإحتكار والعيش في مهبّ الرّيح.