تُعرَّف الموازنة على أنها مجموعة من الأدوات التي تستخدمها السلطة العامة في تحقيق أهدافها، وذلك عبر وجوب تحويل الإستراتيجية الإقتصادية الشاملة إلى خطّة واقعية لفترة زمنية محددة. فالموازنة الناجحة لا تقوم فقط بالرقابة على الإنفاق العام وإنما تسعى للتأكد من أن العمليات اليومية تسير بشكل صحيح خلال تنفيذ البرنامج المقترح خاصة فيما يتعلق بالنموّ الإقتصادي المستهدف من قبل الحكومة. من هنا قد تكون أجهزة الرقابة هي الركن الأساسي لإنجاح أي خطة استراتيجية واقتصادية وإنفاقية تقوم بها السلطة.. ولعلّ ما هو أهم من الرقابة الإنفاقية، التخطيط والرؤية الإقتصادية.
أمّا أن يكون هدف الموازنة التقشفية فقط تخفيض العجز بغياب التنمية والرّؤية الإقتصاديّة ككل فهذا بحدّ ذاته عجز في ميزان التنمية المستدامة، والتي ستفاقم شلل الخدمة العامّة وقدرتها على تلبية حاجات المواطنين ومن هم أكثر فقراً، كما و ستضرب أواصر تطوير البنى التحتيّة المرجوّة ما سيؤثّر سلباً على قطاعات الخدمات في ظلّ الإقتصاد الرَّيعيّ المعتمد. أضف أنَّ السّياسة الضريبيّة المتسحدثة قد تؤثّر سلباً في تنمية عمليات الإنتاج الخجولة بدل تحفيزها، فالقطاع العام المتقشف والمنكمش يقابله قطاع خاص متعثر وغير قادر على المنافسة والنموّ ما يعزِّز فرضيّة تجميد الأرصدة في البنوك حيث مستويات الفائدة أعلى من عائدات الجداوى الإقتصادية.. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل إنَّ تخفيض العجز هو ما سيحقّق النموّ في القطاعات الإنتاجيّة ؟
وما هي انعكاسات عدم أخذ الدّور الإقتصادي للموازنة؟
في هذا السياق أتى كلام فخامة رئيس الجمهوريّة، أنّه: “على الحكومة أن تحدّد في وضعها الموازنة مكامن الخلل والفساد وتعالجها وتظهير الوظيفة الاقتصادية للموازنة بعد طول إنكار وغياب..” فهل تسعى الحومة في نقاشات الموازنة الحالية الماراتونيّة لوضع رؤية إقتصاديّة قيد التحقيق والتفعيل؟ أمّا الجواب فقيد الإستنتاج.. ولعلّ قصة ” الفقير الأحمق” ، للكاتب نجيب نبواني خير تفسير لواقع الحال ؛ فتتحدّث عن رجلٍ فقير عاش في إحدى القرى، ولحظّه السيّئ لم يعثر على عمل، فتوجّه الى أحد العرّافين، فدله على صخرة الحظّ، والتي ستهبه الحظّ، لكنّها بعيدة عن قريته، قطع الرجل الفقير مسافات طويلة، وفي طريقه صادف في الغابة ملكها الأسد، وكان مريضاً، عندما عرف أنّ الفقير يقصد صخرة الحظّ طلب من الفقير أن يستفسر له عن الدواء للشفاء، وعندما واصل طريقه استراح في ظل شجرة وارفة الظلال ـ لكنها كانت تعاني من المرض، فهي تزهر ولا تثمر، فطلبت أن يستفسر لها من صخرة الحظّ عن وضعها وعندما واصل المسير اقترب من قصر منيف، أدخله الحرّاس الى الملك اعتقاداً منهم أنّه ينوي السّرقة، فقال للملك أنه ذاهب الى صخرة الحظّ، فطلب منه الملك ان يسأل صخرة الحظّ عن حكمه وحظه، أخيراً وصل الى صخرة الحظّ الغريبة، سأل عن حظه، وعن حظ الملك، والدواء للأسد وللشجرة، وأجابته الصخرة عن جميع الاستفسارات، عندما وصل الى الملك قال للملك أنت ملكة ولست ملكاّ وتنصحك الصّخرة بالزواج وعدم إخفاء الأمر، فقال الملك للرجل الفقير هل تتزوجني، لكن الرجل الفقير رفض ليعود لدياره، أما الشّجرة فقال لها أنّ تحتها كنزاً يجب قلعها وإخراج الكنز ثم نقلها الى مكان آخر، لكنّ الرجل الفقير رفض قلعها والحصول على الكنز، وعندما وصل الى الأسد قال للأسد “إنّك بحاجة الى دماغ إنسان أحمق كي تشفى من مرضك “ عندها فهم الأسد الرسالة وضرب الرّجل على رأسه ليأكل دماغه. لدينا كلّ الحلول لإعادة الثّقة بالإقتصاد وتحفيز الإنتاجيّة، بدل الإعتماد على الريّع والترقيع، فماذا تنتظرون؟ صخرة الحظّ أو الإنتحار.. !!
إن كان الهدف الأسمى للموازنة العامّة تحقيق التوازن بين الإيرادات والنّفقات أو خفض هذه الأخيرة عبر اعتماد سياسات التقشّف ” وأيُّ تقشّف”، دون أيّة سياسة تنقذ الإقتصاد الوطنيّ، إنما ينطوي على مسرحيّة إستعراضيّة أمام الدول المانحة حيث تكمن معاقبة مواطني الدولة مقابل استرضاء عطف المانحين وحماية أصحاب الرساميل دون سواهم.. لا يا سادة.. إنَّ التخطيط والتقدير هما الوجه الإقتصادي والإجتماعي و ميزتا كلّ موازنة عموميّة وأساس كلّ نموّ مرجوّ، بخاصة وقد تضاعفت وظائف الدولة في المفهوم الحديث فصارت الموازنة الأداة الماليّة التي تستخدمها الدّولة لتحقيق أهداف إقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة حيث لم يعد يقتصر التوازن بكفتي الإيرادات والنفقات للموازنة هو الهدف، إنّما التوازن الإقتصادي والإجتماعي والموازاة الحسابيّة للموازنة .
لم يفت الأوان، إفعلوا ما طلبه فخامة رئيس الجمهوريّة: ” أعيدوا إلى اللبناني ثقته بدولته، أثبتوا له أن تضحياته لن تذهب سدى في مسالك الهدر والفساد الوعرة… وعندئذ فقط نستعيد شعبنا الى وطنه .” وإذا جاءت الموازنة الحاليّة تعبيراً كمّيًّا عن الأهداف التي تسعى الحكومة إلى تحقيقها والمفتقرة إلى الحدّ الأدنى من الرؤية الإقتصاديّة والإجتماعيّة في المدى المنظور والأقصى، فلن تكون كما تسير طروحاتها ومناقشتها، لا أداة تخطيط ولا أداة تنسيق ولا أداة تحفيز، إنما أداة لخدمة المديونية، وتقليصها على حساب التّنمية الإقتصاديّة دون أي شيء آخر.