تروي الحِكمة أنه : ” دخل رجل على أحد العلماء ، فوجده يشرح لطلابه كتب الدين ، فقال الرجل للعالِم : الناس في الغرب وصلوا إلى القمر، وأنت تشرح الدّين !!
أجابه العالم الجليل : وما العجب في هذا يا بني ؟
مخلوق وصل إلى مخلوق ، ونحن نريد أن نصل إلى الخالق.. ولكن أتعلم أنّك أنت المفلس الوحيد بيننا..؟!
فلا أنت وصلتَ القمر معهم ، ولا اقتديت بالتعليم معنا..!!
لقد بتنا في عصرٍ أصبَحَ هَمُّ النَّاسِ إظهَارَ سعَادَتِهم بدَلَ عَيشِهَا..
وإعطاء المواعظ بدل الإتعاظ بها، كلٌ يغرِّد ويعلّق “ويتناقل الحكمة ” دون الإقتداء، والمجتمع يزداد فساداً وجهلاً وفسقاً..
كيف أصبحنا نعيش؟ وأين قيمة المرء؟ أبتنا أدوات إعلام وإعلان..! ونحن نستغَلُّ من قبل الرأسماليين المتوحشين والشركات المتعدّدة الجنسية..
ففي تقييم سريع ، صار الكلام إيمائياً والأداء متطرفاً والحبّ شهوة جسد، لم يعد لكلام الله منزلة عند الناس..
إنّه عصرُ الكمّ.. كم نجني وكم نحقق وكم نتقاضى وكم وكم وكم .. حتى صار النّوع والقيمة كلمتان ممنوعتان من الصّرف..
يوماً بعد يوم، تتبدل المفاهيم والأفكار في مجتمعاتنا .. نسينا حتى لغتنا وحروفها نسينا عاداتنا وأصولها، تجاهلنا ربما أننا أبناء التاريخ العريق وهذا الشرق، فأرسينا فكر الإستعمار الإقتصادي الحديث، هذا التسونامي الذي أغرق عقولنا قبل أسواقنا بأفكار وسلبيات ليست من تراثنا ولا من حضارتنا..
إنها تأثيرات الإقتصاد السّلوكي (Behavioral economics)، والذي يدرس القرارات الإقتصادية
والمالية للأفراد والمؤسسات الناجمة عن تقاطع بين علم الإقتصاد وعلم النفس ، حيث يرى رواد هذا العلم أن الإقتصاد فيه متغيرات غير عقلانية تؤثر على قرارات الفرد والمجتمع ، هذه القرارات دفعت الباحثين الإقتصاديّين إلى دراسة العوامل النفسيّة التي تؤثّر على اتخاذ مثل هذه القرارات.
كان إبن خلدون قد كشف قبلاً عن :” أنَّ شعور الإنسان بجهله ضرب من ضروب المعرفة، و يوزن المرء بقوله ويقوَّم بفعله. وإذا أردتَ أن تعرف الإنسان فانظر من يصاحب؛ فالطباع يُسرق بعضها من بعض حيث نأخذ من طباع بعضنا دون أن نشعر.”
فما علاقة كلّ ذلك بالواقع القائم؟ وفي ظل عصر الكساد!!
الكثير من البشر يتخذون قرارات يوميّة دون الأخذ في الإعتبار أيّة عوامل إقتصادية، لا وضعهم ولا إمكانيتهم ولا مستواهم المادي والمعرفي.. بل إن العاطفة أو عدم العقلانية هي ما تحركهم، وأحيانا تكون النتيجة ليست في صالح من يسلك هذا النهج.
فالإقتصاد السلوكي يأتي كدراسة سيكولوجيّة تحليليّة لعمليات صنع القرار التي يتخذها الأفراد حيث في العادة يتخذون القرارات من أجل تحقيق أفضل إستفادة، وفي الإقتصاد الكلاسيكي هناك نظريّة الخيار العقلاني التي تنص على أنّه عندما يتاح أمام الشّخص عدة خيارات يمكنها تعظيم استفادته، فإن الخيار الأكثر جدوى وإرضاء بينها هو الذي سيتم اختياره.
لقد قام الإقتصاد الكلاسيكي على التفكير العقلاني حيث يمكن للمرء السيطرة على نفسه وعلى قراراته ولا تحركه عواطفه أو عوامل خارجية، وبالتالي، فهو يعلم الأفضل بالنسبة له. إلا أنّ التوحّش الرأسمالي أفرز أسلوب الدّعاية والتسويق لتخدير قرارات الفرد وإغوائه بما ليس ضرورياً و مناسباً له..
على العكس تماماً، يشير الإقتصاد السلوكي إلى أن الشخص ليس عقلانيا وغير مؤهل لاتخاذ قرارات صائبة في ظروف مختلفة حيث عاد هذا النوع من الإقتصاد إلى الواجهة في القرن العشرين بعد أزمة الكساد العظيم عام 1929 وما نجم عنها من تداعيات غيرت النظرة السائدة إلى الإقتصاد المبني على العقلانية في اتخاد القرارات .
وها نحن في كساد عالمي جديد.. أيعقل أن هذا الإقتصاد وصل إلى حائط مسدود؟ بعدما أُتخِم السّوق والأفراد بالسّلع والخدمات ؟
نحن اليوم أمام حاجة ماسة لتغيير سلوكياتنا الإقتصادية وأمسينا بحاجة للعقلانية في طروحاتنا ومطالبنا، فلا يغرّنا اقتصاد سلوكي يزيدنا افتقاراً حتى إلى قيمنا..