لم نَعد قادرين على اليأسِ أكثر من يأسِنا ـ [ محمود درويش]

أَ وَ ليس في الأفقِ إلا مخاوف وهواجس..؟، والحلول أمامنا والأبواب مفتوحة، وننتظر الموت الرحيم..!!

تستحضرني رواية حدثت مع أحد السّجناء في عصر لويس الرابع عشر، كان محكوماً عليه بالإعدام ومسجوناً في جناح قلعة، ولم يبق على موعد إعدامه سوى ليلة واحدة.

وفي تلك الليلة فوجئ السّجين ببابِ الزنزانة يُفتح والمَلك يدخل عليه مع حرسه ليقول له: أعطيكَ فرصةً إن نجحتَ في استغلالها بإمكانكَ أن تنجو.. هناك مخرج موجود في جناحك بدون حراسةٍ، إن تمكَّنتَ من العثورِ عليه يمكنكَ الخروج، وان لم تتمكن فإنَّ الحرَّاس سيأتون غداً مع شروقِ الشَّمس لأخذك لحكم الإعدام.

غادر الحرّاس الزنزانة مع الإمبراطور بعد إن فكّوا سلاسله وبدأت محاولاته ليختبر كلّ حجر وبقعةٍ في السّجن ربّما كان فيه مفتاح حجر آخر لكنَّ كلّ محاولاته ضاعت سدىً، والليل يمضي واستمر يحاول ويفتّش،
وفي كلّ مرّةٍ يكتشف أملاً جديداً..
فمرّة ينتهي إلى نافذةٍ حديديّة، وأخرى إلى سردابٍ طويلٍ ذو تعرجاتٍ لا نهاية لها ليجد السّرداب أعاده لنفس الزنزانة.. وهكذا ظلّ طوال اللّيل يلهثُ في محاولاتٍ وبوادر أملٍ تلوح له من هنا وهناك وكلّها توحي له بالأمل في أول الأمر لكنّها في النّهاية تبوء بالفشل.

إنقضت ليلة السّجين كلّها ولاحت له شمس الصَباح من النافذة ووجد وجه الإمبراطور يطلّ عليه من الباب ويقول له: أراك لازلت هنا..!

قال السجين: كنت أتوقع أنّك صادق معي أيها الامبراطور…..

أجابه الامبراطور : بلى، لقد كنتُ صادقاً.. لقد بحثتَ في كافّة الأمكنة ولم تترك سرداباً ولا حجراً إلاّ وبحثت فيه عدا.. باب الزّنزانة..!

لقد كان باب الزنزانة مفتوحاً وغير مغلق..!!

إنَّ حكاية هذا السّجين تمثّل واقعنا الوطنيّ.. !!
فعلى الرّغم من إعادة إحياء المجلس الإقتصادي الإجتماعي في 12 تشرين الأول 2017 ـ الذي يضم 71 عضواً وتمّ بتعيينهم مراعاة التوزيع الطائفي والمذهبي كما والكوتا النسائيّة ـ وكان المجلس قد تأسس عام 2000، بموجب المرسوم الخاص بالقانون 538 الصادر عام 1996 والقاضي بتشكيل المجلس بناءً لمقررات “الطائف”، بقي مستمراً بصعوبة حتى عام 2002 حيث جرت محاولات لإكمال تعييناته عام 2007 من خلال إصدار مرسوم جديد لهذا الغرض، و بعد 16 عاماً من تعطيله، لم تستعن به الحكومة..
فقد عمدت إلى تكليف شركة ” ماكينزي” لوضع خطّة إقتصادية جديدة للبنان بكلفة إستشارة بلغت ” مليون و400 ألف دولار أميركي.. !! ” وذلك بغية وضع هويّة إقتصادية للدولة اللبنانية، وتحديد القطاعات التي يملك لبنان فيها قيمة تفضيلية، لتتمكّن الدولة من وضع خطّة لكل قطاع لاحقاً.
جاءت تقارير ماكينزي شبيهة الى حد ما بالتي سبقتها من الدراسات، وقد أوصت الدّولة اللبنانيّة بأنْ تعمد سريعاً الى اتباع “سياسة دعم شاملة للنشاطات الإنتاجية، خارج القطاعات الخدماتية التقليدية خصوصاً في المجال الزراعي والصناعي، وأن تبادر الى وضع خطة شاملة وطارئة لمكافحة الفساد في كل من القطاعين العام والخاص “، بعد تفشي هذه الآفة وبلوغها معدلات مرتفعة، حيث لبنان حالياً يقع ضمن الدول ال 37 الأكثر فساداً في العالم، إذ صنّفته منظمة الشفافية الدولية في المركز 143 بين 180 دولة، كما أوصت أيضاً الى السّعي الحثيث لتحقيق الإصلاح الإداري المشنود في القطاع العام والعمل على ترشيقه ووقف التوظيف فيه بعدما تمَّ إدخال 26 ألف موظف الى هذا القطاع خلال السنوات الثلاث الأخيرة.

كل هذه الاجراءات هدفت لتقليص نفقات الدّولة اللبنانيّة وتعزيز إيراداتها من خلال زيادة إنتاجية القطاع العام فيها وصولاً إلى تبنّي نظريّة الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص في إدارة المرافق العامة والتي أضحت إدارتها عبئاً على كاهل الدولة اللبنانية.

ماذا عن دراسة ماكنزي لرفع إنتاجية صغار المزارعين من خلال اعتماد التكنولوجيا الحديثة وتغيير انواع البذور، والاستفادة من الامكانيات التصديرية للمزارعين عبر تحسين شروط الجودة.

ماذا عن دراسة إعطاء الأولوية لأربع قطاعات صناعية هي: الأغذية والمنتوجات التسويقية وتصنيع الأدوية، ونظام البناء الحديث .
وعن المجال السياحي: بالتوجّه لاعتماد استراتيجيّة جديدة في هذا القطاع تعتمد على استقطاب الزّوار من 16 دولة تحديدا من اوروبا والدول العربية حيث الانتشار اللبناني كبير، كما وتطوير الخدمات السياحية في ثلاث مراكز اساسية يتم تحديدها فيما بعد. والتركيز على السياحة الترفيهيّة.
ماذا عن الخطّة في المجال المصرفي: تطوير البرامج الرقمية في المصارف ما يساهم في تطوير ونمو القطاع المصرفي.
ماذا عن قول الخطّة بتطوير قطاع الخدمات المالية من أجل تمكين وتمويل برامج التنمية الاقتصادية الوطنية.

ماذا عن تحويل لبنان الى وجهة رئيسية لإدارة الإستثمارات والخدمات المصرفية “الاوف-شورينغ”، من خلال استهداف العملاء ذوي الارصدة المالية الضخمة. ماذا عن اعتماد الخطة تطوير مجال اقتصاد المعرفة والابداع: الاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز الانتاجية في القطاعات ذات الاولوية ليصبح الاقتصاد قائما على الابتكار.

ماذا بالنسبة الى اللبنانيين المنتشرين: في تقويم الرابط بين لبنان والمغتربين اللبنانيين نحو توجيه وتشجيع التدفقات المالية للمنتشرين الى الاستثمارات المنتجة في لبنان.

صحيحٌ أننا بدأنا بمكافحة سرطان الفساد ولو بوتيرة خجولة مع عدم إعتماد استراتيجية استئصال واضحة، فإننا أيضاً لم نأتِ على إِعمال أيّة سياسة دعم شاملة للنشاطات الإنتاجية، ليس فقط خارج القطاعات الخدماتية التقليدية خصوصاً في المجال الزراعي والصناعي، بل على المستوى العام حتى باعتماد المكننة والإستفادة من التطوّر التكنولوجي ..

إنَّ البابَ لمفتوحٌ، فماذا ننتظر؟