من لم تُفده عِبرٌ أيّامه كان العَمى أولى به مِن الهُدى”
تاريخٌ حافِلٌ من الصّراعات السياسيّة صبغت الحَقبة الوطنيّة الحديثة، تاريخٌ قوَّض اقتصاد الدّولة فحوَّله لمرتهن..
من حرب 1948.. لأزمة 1958.. إلى حرب 1967.. وصولاً لأزمة 1969 واتفاقية القاهرة.. إلى حرب 1973 واتفاقية كامب دايفيد.. إلى حرب السنتين 1975 ـ 1976.. فمرحلة الدخول السوري 1976.. وإجتياح إسرائيل للبنان سنة 1982..
ليتكرّس اتفاق الطائف الإشكالي بعيد حرب 1989-1990 نحو الهيمنة السوريّة الدوليّة.. وعملية عناقيد الغضب حرب نيسان 1996.. فالحرب الإسرائيلية على لبنان 2006.. فمعارك نهر البارد 2007 .. فأحداث السابع من أيار 2008 ..إلى اتفاق الدوحة21 مايو 2008 .. وكان ختامها بدء النزوح السوري 15/3/2011 وتبعاته المستمرّة..
إنَّ علم الٱقتصاد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ، فيعرف بالتاريخ الاقتصادي، وهو دراسة الاقتصاد أو الظّواهر الاقتصاديّة في الماضي أو في ظرف تاريخيّ محدّد، في إطار التداخل مع مجالات التّاريخ الاجتماعي والديموغرافي..
لقد عدَّدنا المفاصل الكبرى التي قوّضت اقتصادنا القوميّ، حيث العمى كان مصابنا، الذي أوقعنا في أسر الرّيعيّة الهشّة فالإرتهان المقلق..
تستحضرني قصة بلد العميان الشهيرة للكاتب الإنكليزي هيربرت . ج . ويلز المدوّنة في عام 1936 والتي ما زالت حتى الآن واحدة من أروع القصص العالميّة.
يحدثنا فيها الكاتب عن مرض غريب انتشر في قرية نائية معزولة عن العالم بجبال الانديز فأصاب المرض سكان القرية بالعمى.
ومنذ تلك اللّحظة انقطعت صلتهم بالخارج، ولم يغادروا قريتهم قط، تكيفوا مع العمى، وأنجبوا أبناءً عُميانَ جيل بعد جيل حتى أصبح كلّ سكان القرية من العميان، ولم يكن بينهم مبصر واحد.
وذات يوم وبينما كان متسلق الجبال (نيونز) يمارس هوايته انزلقت قدمه فسقط من أعلى القمّة إلى القرية لم يُصب الرجل بأذى ، إذ سقط على عروش أشجار القرية الثلجية، أول ملاحظة له كانت أن البيوت بدون نوافذ وأن جدرانها مطلية بألوان صارخة وبطريقة فوضوية.
فحدّث نفسه قائلاً: لا بُد أن الذي بنى هذه البيوت شخص أعمى.
وعندما توغّل إلى وسط القرية بدأ في مناداة الناس، فلاحظ أنهم يمرون بالقرب منه ولا أحد يلتفت إليه، هنا عرف أنه في (بلد العُميان) .
فذهب إلى مجموعة وبدأ يعرف بنفسه..من هو.. وماهي الظروف التي أوصلته إلى قريتهم..
وكيف أن الناس في بلده (يبصرون)..
وما أن نطق بهذه الكلمة حتى أدرك حجم المشكلة التي وقع فيها، حيث انهالت عليه الأسئلة :
ما معنى يبصرون ؟
وكيف؟ وبأية طريقة يبصر الناس؟
سخر القوم منه وبدأوا يقهقهون ،بل وصلوا إلى أبعد من ذلك حين اتهموه بالجنون وقرر بعضهم فقء عيون (نيونز) فقد اعتبروها مصدر هذيانه وجنونه .
لم ينجح بطل القصة (نيونز) في شرح معنى البصر، وكيف يُفهم من لا يبصر معنى البصر..!! فهرب قبل أن يقتلعوا عينيه وهو يتساءل كيف يصبح العمى صحيحاً بينما البصر مرضاً..؟!
بلد العميان هو المنغلق على ما لديه من أفكار ومناهج
رافض لكلّ فكرة لم يألفها ولم يعرفها.
هو ذلك المجتمع المتعصّب لكلّ فكر تقليدي بدائي، يرفض التحديث والإستقلالية والسياديّة..
صحيح أنَّ الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد حرّ يعتمد على المبادرة الفرديّة والملكيّة الخاصّة على ما جاء في الفقرة “و” من مقدمّة الدّستور الذي يؤكّد الانفتاح على العالم الخارجيّ مع تحرّك مناسب للرّساميل والعَمالة..
إلا أنَّ المبادرة الفرديّة في مجتمعنا صارت إيعازاً موجّهاً بسياسات مصرفيّة احتكارية في ظل تكريس أحكام ما أسموه الهندسات الماليّة.. حيث المُبصر المتبصّر تفقأ عيناه ويتلمّس يوماً بيومٍ أحوال السّوق وأخبار ما يبثّه محتكروا الثروات..
تاريخنا الإقتصادي تاريخ قائم على الذّعر.. في فترات الإنكماش حيث لا سبيل لفهم الانكماش إلا في ضوء مظاهر تاريخية مختلفة كالتي مرّ بها البلد ..
وإذا أردنا التعرّف كيف صارت بعض الدّول غنيّة، يجب علينا تحديد متى صارت كذلك..
العمى ألا تؤمن بالتجديد.
العمى ألا تفارق ما زرعه في عقلك الباطن من يخيفوك من غدك دون أن تعي أسباب ذلك.
العمى أن تعيش الحاضر بفكر الأمس.
العمى أن تعالج كل مآسيك ومآسي بلدك بنفس الإسلوب العقيم الذي استخدمته من قبل.
فالعيش بالحدّ الأدنى من متطلّبات الحياة ما هو إلا فَخّ للفقر .. وما افتقارُ بلدٍ، إلا وجُعِلَ اقتصاده كسيحاً رازحاً مرتهناً..