التشاؤم ليسَ فقدان الأمل، إنّما شعورٌ مبرَّر يختلج المرء ليلافيه ولوج مرحلة اليأس ..فالعقل الناجع هو الذي يتدارك قبل أن يقوَّض بالصُّدف.
إنَّ دقّة المرحلة الرّاهنة وما ورثه لبنان من أعباءً تراكمت على مدى عقود سابقة، تتطلب وعياً مضاعفاً من قبل المجتمع والنُّخَب..
وإن كانت النّظرة متشائمة، فهذا دليل عافيةٍ في ظلّ زحمة التحليلات التي تتجاهل أو تنعي الوضع المالي المتردّي، مشيرة بأصابع الإتهام وسط هرج ومرج لا مسؤول دون أي تبصّر أو تركيز في تفاصيل هذا الواقع وكيفيّة التصدّي للعوامل والقوى التي تلوي ذراع الوطن وترهق مؤسساته وتغرقه في مستنقع الإستجداء..بعيداً عن الروح الوطنيّة العالية التي ترى الأخطار المحدقة بناء للمعطيات الواقعيّة والحسابيّة الثّابتة..
لا يقبل تهريج في مجلس عزاءٍ، بل التحمّل والتبصر لمواجهة الفاجعة المشؤومة.. لا ضير في الاعتراف أنّ مسببات ذلك الموت المحزن لم تكن فجائيّة بل قد تكون نجمت عن اشتراكاتٍ مرضيّة دون وقاية سحابة عقود سالفة..
إنّ التشاؤم العاقل يوقظ النّيام من سكراتهم الحالمة، ويخرجهم من مضاجع السّكون المقلق نحو الوعي والتحسّب لأي مستجدّ.. إنها الرّوح الوطنيّة والتضحية لأجل البقاء بكلّيتها.
إنَّ تحييد الحروب والنأي عن صراعاتها دون أي تعزيز لمواجهة الأزمات الماليّة بغياب الخطط التحسّبية والتضافر الوطنيّ الواقي لمن هم أكثر ضعفاً والحامي لضحايا الأزمة الماليّة الأكثر هشاشة .. هي ثقافة السُّذَّج !! واعتياد نهج النعامة !!
فمن ينأى عن الصّراعات المحيطة لينعم بالرخاء الداخلي دون أن يتحصّن اقتصادياً ومالياً لغدرات الزّمن ويخطو نحو الإنتاجية الداعمة للصمود بعيداً عن الاجراءات الهشّة، فإنه يثبّت مقولة تشرشل “إذا كنت ذهاباً نحو الجحيم فتابع المضيّ “.
و يشبه ذلك الأرستقراطي مدّعي الثقافة الذي قرّر ذات يوم أن يسافر وكان عليه أن يعبر نهراً كبيراً، فبحث عن قاربٍ ليجد صيّاداً بسيطاً وافق أن يقلّه برحلته إلا أنّه نبّهه بقرب العاصفة وسوء الجوّ ودعاه للتروّي قبل خوض المغامرة ..
ما كان من ذلك المثقّف إلا وعيّره بالتشاؤم قائلاً له: أنا أعرف كلّ شيء عن أحوال المناخ.. فتفاءل مثلي ولا تقلق..!!
في مستهلّ الرّحلة تلبدّت السّماء بالغيوم ولأن النهر كان عريضاً أدرك الرّجل أن عبوره سيستغرق بعض الوقت، لذا قرّر التحدث مع الصيّاد .
” هل تعلم أن الشمس تبعد حوالي 93 مليون ميل ، ومع ذلك تزوّدنا بالحرارة والضوء عبر الكون ومع مرور الزّمن، مع العلم أنه إذا انحرفت الشّمس ولو جزءاً بسيطاً عن مدارها سيحل الدّمار الكامل؟ ”
أجاب الصياد :” لا يا سيدي ، أنا مجرد رجلً بسيط غير مثقّف ، ومن المستحيل أن أعرف هكذا معلومة ”
هنا انتهره الأرستقراطي قائلاً : إذاً، فأنتَ غبيّ بنسبة 25 %
وعند اجتيازهما نصف الطريق، بدأ الرعد يهدر.. فسأل المثقّف الصيّاد : هل لاحظت البرق قبل سماعك صوت الرعد ؟ أتعلم كيف تحدث هذه الظاهرة؟
أجابه الصيّاد لا يا سيدي!!
فتباهى المثقف قائلاً :أنت غبيّ بنسبة 50 %
وبعد أن قطعا ثلاثة أرباع النهر بدأ المطر بالهطول فامتلأ القارب الصّغير بالماء ما جعل الأمر صعباً على الصيّاد. لكنّ الأرستقراطيّ المثقف أصرّ مستفهماً:
هل تعلم كيف يتشكّل المطر ؟
أجاب الصيّاد: لا يا سيدي
فقال الرّجل معتدّاً بنفسه: إذن أنتَ غبيّ بنسبة 75% ..
وفجأة، قاطع الصياد الرّجل صارخاً ” آآه .. يا إلهي! لقد أضعت مجذافي والماء سيقلب القارب ، لا يمكننا فعل شيء سوى السّباحة بقية طريقنا، ومن حسن حظّنا أنّه ليس ببعيد.”
.. ارتعد المثقف قائلاً ولكنني لا أستطيع السّباحة! صارخاً وهو يرى موته المحتوم أمام عينيه.
عندئذٍ انتهره الصيّاد قائلاً : إذن يا سيّدي العزيز، فأنت الغبيّ بنسبة 100%
إنّ هذا الصيّاد كان متشائماً بعقلانيّة، مدركاً مخاطر الرّحلة، أما الرّجل مدّعي الثقافة كان تفاؤله غير واقعي ولم يقبل بأية نصيحة قبل فوات الأوان..
فلمن تكيَّف وحالة الهرج المتمادي نأياً بالجسد دون النّفس، أذكّره بأننا على متن السفينة نفسها فإن غرقت سيغرق الكلّ، و لا قوارب نجاة تكفي الجميع..!!
نحن لسنا في حالة حرب لا قدّر الله، إنما بأزمةٍ ماليّةٍ عميقة، فأن نتشاءم بعقلانيّة تحفيزاً لإيجاد حلول تقينا شرّ الغرق ،خير لنا من تفاؤلٍ أجوَف يُغرق الجميع بضربة مفاجئة..
المشكلة في كثرة الأرستقراطيّين…وندرة الصيّادين الذين يُجيدون السّباحة في خِضَمِّ العواصِف.