إنَّ دَواء حِمايَة الدُّستُور ودَاء انتِهاكِه يكمن بالديمقراطيّة التوافقيّة، إذ فيها الخِصَامُ و الخَصمُ وَ الحَكَمُ ”
لما كان الدّستور كمفهوم قانوني يتألف من مجموعة القواعد الأساسيّة المنظّمة للدولة ككيان وسلطة تصدر بشكل وثيقة تأسيسيّة لنظام الحكم ومقتضيات الوفاق والعقد الجماعي..
هذا الوفاق الذي دأبت المجتمعات المختلطة على استثارته واستحضار رُوحِه الجامعة، كلّما واجهتها صعابٌ وأزمةُ حُكمٍ، فكانت الديمقراطيّة التوافقيّة أنموذج ذاع صيتَه في الآونة الأخيرة، حيث فرض على بعض الجماعات المتناحرة صيغة أو ربّما إشكاليّة تتطلب وفاقاً وطنيّاً كلّما بلغت العقدة ذروتها والمعضلة من الصّعوبة لوجود حلّ.
على الرّغم من اكتساب القواعد الدستوريّة احتراماً كبيراً في ضمير الأفراد والجماعات يفوق مرتبة القوانين، فالقواعد الدستوريّة لها بالإضافة لصفة التأسيس، صفة تشكيل الكيان وأصول الحكم.
وإن كان من حيث الشّكل هناك شكلان للدساتير : المكتوبة، والتي تصدر بشكل نصوص تشريعيّة..
والعرفيّة التي تستمد من العرف دون أن يتدخّل المشترع في وضعها فلا تؤلّف وثيقة مكتوبة..
إلا أنّ الإعتياد والتّكرار والوضوح والتقادم والعموميّة
كعناصر مادّية لأيّ عرفٍ دستوريّ تكرّس مع ما يرتبط بها من مبدأ الإقتناع بإلزامية هذا الإعتياد أو الإحترام لاستقرار القاعدة العرفيّة، العنصر المعنوي الأهمّ لاستمرار تطبيق الأعراف.. وهنا يأتي التوافق إما لتكريس المبدأ العرفي والسير به، أو للتحجّج بموجبه لنسف أيّة صيغة تخلق وجوداً معارضاً..
على هذا الصّعيد تدأب الديمقراطيّة التوافقيّة على تحقيق التوطيد والإستقرار الديمقراطي في المجتمعات وتنمية روح المساومة والإجماع بين فئات المجتمع المتعددة..
وتأسيساً ، فإنَّ أيّ تنظيم قانونيّ لعمل المؤسّسات السياسيّة ليس بالأمر الهيّن، كَون العمل السّياسي يقوم على استعمال النفوذ واستخدام القوّة بطبيعته، كإحدى الصّفات الملازمة له، هذا من ناحية، و من أخرى فقد لا تحترَم الصّيغة الدستوريّة لتسبب الإضطراب على تأمين التوافق في ذلك المجتمع السياسي ..
من هنا، فإنَّ حماية أيّ دّستور كقواعد عليا آمرة تتطلّب وسائل متعدّدة أبرزها الوسيلة السياسيّة والتي تتفوق على تلك القانونيّة إن في المرونة أو في تدوير الزوايا والتكييف ..
لقد أثبتت التّجربة في البلدان النّامية التي تمسك فيها السّياسة مفاصل الحُكمِ وسلطان الحَكَم، أنَّ الوسائل السياسيّة هي الأنجح لفضّ الخصام بين الخصوم وضمان احترام الدستور وحمايته..
لا بل أكثر من ذلك، بحيث لا يمكن فهم وتفسير تلك القواعد الدستوريّة بشكليها المكتوب والعرفي، خارج أطر المؤسَّسات السياسيّة، إذ هي المرآة الفكريّة الإديولوجيّة لها .. لا بلّ الإنعكاس الطبيعي لمسارها.
ومثالاً على ذلك، التوافقية التي اقترنت بالتجربة السياسيّة اللبنانيّة حيث بسحرٍ ساحرٍ تطفئ فتيل الأزمة باستمطار التوافق الحتمي كمسارٍ إلزامي وجرعة إنعاش لتسيير عجلة السّلطة.
فالمؤسّسات السياسيّة اللبنانيّة أُرغمت على السّير بالديمقراطيّة التوافقيّة بعد الإصطدام بأزمات الحكم التي فرضها تعديل الطائف حيث تطوّرت بمسار متسارع من المباشرة إلى الأكثريّة وحتميّة التوافقية المفروضة كخشبة خلاصٍ من القتال المُميت والتشنّجات والإحتقان المذهبي، حفاظاً على الكيان الواحد واستبعاد الإنغماس في آتون التقسيم بالرغم من أن التوافقيّة هي المسار الطبيعي لبلوغه كما واعتماد النسبيّة..
كثيراً ما صار التوافق عنوان لأزمات الحكم، فبدايةً مع قانون الإنتخاب والسّعي لتقاسم السّلطة والمحاصصة، فأيّ قانون كان قد تم رفضه ولا يوضح رؤيا الأحجام منذ ما قبل العمليّة الإنتخابيّة.
وصولاً إلى قوانين المحاسبة ومكافحة الفساد واستعادة المال العام، التي احتاجت لتوافق على إقرارها تمهيداً لتطبيقها فتعطّلت، والأحدث تجربة كانت عمليّة طبخ الموازنة العموميّة حيث التوافقيّة بلغت ذروتها في الأخذ والردّ..
لم تقتصر آفات الديمقراطيّة التوافقيّة على السّلطة التشريعيّة معجن القوانين، لا بلّ تفشّت في مخبز تأليف الحكومات وما سمّي بحكومات الوفاق الوطني حيث التوافق شلّ قدرة النظام على صياغة القرارات المفصليّة ما انعكس سلباً على السياسات الماليّة والنقديّة والإقتصاديّة ككلّ..
فلا نَسكَرنَّ بتسمية ” ديمقراطيّة ” ، ككلِمة عاجزة في عبارة ” الديمقراطيّة التوافقيّة” التي تصف نظاماً سياسيّاً تحكمه التناقضات والخِصَامات ليتساوى فيها الخَصمُ والحَكَمُ..
المحامي زياد فرام