غالباً ما تتأثر المواقف حتى الوطنيّة منها، بالدَّوافع والمعتقدات، غير أنها لا تُبنى إلا باستراتيجيات التعلم، والتنشئة الاجتماعيّة وتكييف السُّلوك..
لقد أعطى العالِم سيغموند فرويد مؤسِّس مدرسة التَّحليل النفسي من خلال نظرياته حول الدّوافع اللاشعوريّة على السّلوك، مفاهيم تبيِّن سلوك القائد و مهارته في اتخاذ القرارت من خلال تفاعل أنظمة شخصيّته الثلاث الهُوَ و الأنا و الأنا العُليا، إلى جانب تحكُّمِه بمبدأ اللذَّة، ومبدأ الحقيقة..
إلى تلك المفاهيم يُسَجَّل أنَّ النُّخب المثقَّفة تتوزع في المجتمعات المعاصرة على طبقات مختلفة باختلاف طبيعة العلاقة بينها وبين العامّة من الناس ،كما ،و تجاه السُّلطة بحسب طرق التفكير السائدة. قد تظهر باقة نخبويّة مثقّفة تحمل هموم الناس في مختلف القضايا الإجتماعيّة والحياتيّة وقد تأتي نخبة أخرى مثقفة تسعى لتوطيد صلتها بالسُّلطة حفاظاً على مركزها وامتيازاتها تحت شعار ” أعطني مكانك”، إنَّ هاتان الفئتان لا تستطيعان التغيير، فالاولى تحاول فتعزلها ثقافتها والثانية تعزلها مصلحتها ..
ولكن، إزاء حاجز المصلحة واستجداء الطبقة المثقَّفة للسلطة يطرح تساؤلٍ عن هويَّة المخوَّل الذي يمكنه خدمة مجتمعه دون استهدافه إشباع الأنا لديه على حساب الأنا العليا .. !!
إنهم جهابذة ومثقفو الظلّ.. أولئك الوطنيون الثائرون لإيمانهم بالحريات وضرورة التغيير والتضحية حرصاً على حقوق الجميع، إنهم فئة الذين لم تقدّم لهم الحياة سوى ذاتها، فأحبوها وناضلوا في سبيلها قُدُماً.
هؤلاء المُدركون، هم من ثاروا ضد المفاهيم التقليدية للحكم: حيث كان امتيازاً شخصياً للملوك والأمراء وسادة الإقطاع بعد طمس معالم التفرقة بين الدولة كشخصية قائمة بذاتها وأشخاص الحكّام الذين كانوا مصدر السلطة والسيادة.
هؤلاء النخبة، هم من قادوا نشأة الدول بغض النظر عن مصادر السلطة السياسية إن بالتعاقد أو بمبادئ القوّة أو التطوّر التاريخي أو الأسري أو حتّى في العقيدة الماركسيّة ذاتها..
قد يكون التغيير شعار كل من يعمد لاحداث نقلة نوعية في الذهنية السائدة أو خطوة إضافية لإرساء معادلة جديدة وحتماً نقل الأفكار الإصلاحيَّة إلى الحيِّز العملي الفعَّال. من هنا ليس المهم أن يكون المواطن ساعياً نحو التغيير وحسب، وإن كان ذلك مطلباً وطنياً ملحاً ، بل الأهم من كل ذلك أن يكون واعياً لمعنى التغيير، فإذا كان التغيير يقود لحالة مشابهة أو أسوأ فذلك يكون مهذلة ومضيعة للوقت وتاريخ النضال.
وربَّ مجتمعات قادت وناضلت للتغييرات السياسيّة والاقتصاديّة، و فشلت بأهدافها، ، ذلك أنها لم تسعَ للتغيير القاعدي عبر تنمية قاع المجتمع الأمر الذي يحدث اختلالات إجتماعية واضطرابات سياسية بسبب هشاشة الطروح التي لا تتماشى والبنى الفكريَّة والمجتمعيَّة السائدة.
إنَّ مجتمعاً ما يصنع التغيير بقدر حاجته إليه، و لأن يصير واقعاً ممارساً سيكوون بقدر استيعابه لمنظومته الجديدة وإمكانيته الإنضواء تحت فعاليتها، فبغير ذلك يكون نضاله جزافاً..
اليوم إن مفهوم الفقر في المجتمعات العربية يوجه أصابع الاتهام للمذنبين الحقيقيين ، حيث، لا يمكننا إغفال فساد السلطات، أو تحييد مسؤوليتها كما و دورها الأساسي والمتقاعس في مكافحة البؤس وإعادة توزيع الثروة..
إن جهابذة الظلّ يعلمون جيداً أسباب ذلك وطرق تقويضه والحلول الفعالة كما يعرفها أهل السلطة، إلا أن الحاجز الراديكالي أي حاجز السلطة وقمع الترقّي والتدرج وقطع الفرص، يعيقهم عن تحقيق التغيير المنشود لإعادة موازين الحق والعدالة وتحرير مقدرات المواطن والوطن معاً.
وها قد دخل الوطن مرحلة إخراج النُّخب إلى الضوء في إطار مقترح توزير الإختصاصيين للنهوض بالإقتصاد، و مكافحة الفساد ، عبر إعادة الثقة لمجمل القطاعات، وتطبيق العدالة الضريبية ومكافحة الإثراء غير المشروع وملاحقة مرتكبيه لاسترداد الأموال العامّة المنهوبة، فلا يسع الأمّة إلا وتظهير النُّخب المثقّفة النظيفة الكفّ من أجل إطلاق السياسات التغييريّة الحقيقية والكفّ عن العبث بأحلامِ المواطنين الذين يشعرون بتهديد إنسانيَّتهم، وإرهاق عرق جبينهم، ويلتزمون الصّمت ويتقبّلون الاحتكار ، ويتعايشون مع فكرة الاستبداد.
فلنتحرَّر من ساديَّة فاسدي السلطة، ذوي السِّيَر وأنماط السُّلوك التي أظهرت دوافع واستراتيجيات مقلقة وغامضة، وأطماع أفقرت الوطن وأفسدت المؤسسات..
ولندعم نُخَبنا المثقَّفة ونعطها الفرصة التي أبعدتها السّياسات المحتكرة عن متناولها، فلديها الثقة بالنفس والعلم اليقين، والأهم الروح الوطنيَّة والمبادرة التي نحتاجها اليوم لإعادة إطلاق وطننا من أسر الفساد ، وبؤرة التسلُّط والرّيعيّة الهشّة التي صَبَت إلى اللعب بمقدّرات المواطن ولقمة عيشه ومستقبل أبنائه.
اليوم، لم تعد مسؤولية المرحلة القادمة إلا مسؤولية المواطن العالِم نفسه.. فلا عين للحظِّ إن لم تبصِر الهِمَمُ.