إنها قصَّةٌ واقعيّةٌ، حدثت في أمسيةٍ كانونيّةٍ عاصفة، بينما كانت إحدى العائلات القرويّة تتسامر قرب الموقد وتتباحث بمقترحاتٍ ربيعيّةٍ لتحسين ظروفها..علا صوت الإبنة الصغرى: أبي لما لا تشتري لنا سيّارة نلبّي بها متطلبات الحياة المعاصرة إسوةً بجيراننا؟!.. أصيب الكلُّ بذهولٍ مطبق لروعة تلك الفكرة المقترحة، ورغم كل المآخذ وسوء وضع العائلة المادّي، لم يكن للجدل حديث فتم القبول الجامع على المقترح..
غير أنَّ أسارير البهجة ما هنأت لأفراد العائلة، فقد تدخّل أحد الأبناء الثلاثة ليتساءل: ما نوع السيّارة التي سنشتري؟!..
ساد الأمسية صمت مطبق وتساؤلات حارت بها العيون.. وما برهة، إلا وصار كلُّ فردٍ يسمي نوع سيارة يرغب بركوبها، فاحتدمت الآراء وتعاركت المقترحات، لتستقرَّ بعد تدخلِ الإبن البكر، مشيداً بسيارات المرسيدس و عراقتها ومتانة تصنيعها التي تتحدى ظروف رداءة طرقات القرية، فعادت وعمت البهجة جميع الوجوه، وما كادت أن تهنأ إلا وأطلقت الزوجة العنان لذوقها.. وما أدراكم بذوق النساء..!
طرحت الزوجة المصون سؤالها البليغ : وأيُّ لون ستكون عليه سيارة المرسيدس خاصتنا ؟!..
عاد الخلاف ليتأجج من جديد إنه صراع الأذواق المحيّرة، ولولا توافر اللون الأبيض تحت منطوق ” يتماشى ومختلف المناسبات” لكان مشروع السيارة أوقد بمدفأة الحطب حينذاك..!!
تنشق أفراد العائلة الصعداء وقامت ربّة البيت وأخرجت كيس اللوز والزبيب للعلن إحتفاءً بنجاح المشروع.
إلا أنَّ أنانيّة الإبن أشعلت صراعاً أفقد العائلة فرحتها لا بل أرغمت ربّ البيت على تمزيق ذلك الحلم من ذهن عائلته منعاً للفتنة وما وصلت إليه المناكفات حينما تم طرح توزيع مقاعد السيارة على أفراد العائلة..كلهم أرادوا الجلوس في المقعد الأمامي..!!
خلافٌ على فكرة لم تدخل حيِّز الواقع.. خلاف على محاصصة ليس لها فحوى واقعي.. خلاف على المبتغى دون النظر للمستطاع..
لم يعد موضوع الجدل شراء سيّارة وتأمين ثمنها، ولا الطرح في مدى جودتها و متانتها، ولم يؤخذ بالحسبان عصب الأسرة وترابطها الطبيعي، كما وتضحية كل فرد لصالح الكلّ، بل أنَّ مجرّد ركوبها وتوزيع المقاعد، أشعل فتيل التفرقة والأحقاد الدفينة.. كم تشبه تلك، قضيّةُ تسيير الوطن..!!
عندما يثار الخلاف على القشور، ويصبح الصّارع على شكليات ومبتغى لا يؤثر بجوهر الأمور، ويُسترسل في تمحيص ما لا تحليل آخر لوصفه، لمجرّد خلق خلاف تبنى عليه معمعة غير مؤثرة، إلا في بؤس مصير محتوم، لما يكون قد أسرِفَ من وقت ثمين.. حينئذٍ، يكون المسؤول غير ذي علمٍ، ووطنيَّة، وذي أنانيَّةٍ مطبقة.. وفي ذلك كلّه، يضيِّع فرص العيش الرغيد والإرتقاء، في سيلِ” الأنا ” المُدمِّر.. تلك حال من يختلفون على عدمٍ، و هُم عدمُ..