تخطيطٌ، فتَصمِيمٌ، فتنظيرٌ، فجداوى، فعَزْمُ وجوهٍ، فتقهقرٌ، فإِهمالٌ، فتَرَدُّدٌ، فتَقْصِيرٌ وتَكاسُلٌ وفشَل..
إنَّها بلاد العجائب.
أمَّا أنتم .. فلا تخافوا إذا قلقتم و لا تتشاءَموا إذا انزعجتم، ولا تضعفوا إن اضطربتم، ولا تأرَقوا أو تتأفّفوا إذا توهَّلتم، ولا تندهِشوا إذا احترتم، ولا تنزَعِقوا إن حَذِرتم، ولا ترتاعوا أو تخُوروا أو تجبَنوا.. فها حال من يقبعون تأئهينَ عندَ مفترقِ المحطَّات المفصليّة من تاريخ أوطانهم، غير آبهين لمصيرهم، ينظرون إلى الخارج بعين المُنقذ، ويتصرّفون في الداخل بأداة المتآمر..

هل قرأتم يوماً في طفولتكم “مغامرات أليس في بلاد العجائب” ..؟ ‏، تلك القصّة المكتوبة في عام ١٨٦٥ من قبل عالم الرياضيات الإنجليزي تشارلز لوتويدج دودسون تحت اسمه المستعار لويس كارول. والتي تروي عن مغامرة الفتاة “أليس Alice”، التي سقطت في جحر أرنب نقلها إلى عالم خيالي تسكنه مخلوقات غريبة..
وفي طريق مغامراتها تلك سألت ” أليس” القطّة : هلا أخبرتني من فضلك ، أي طريق يجب أن أسلكه من هنا؟
فاستوضحتها القطة: “هذا يعتمد بشكل كبير على المكان الذي تريدين أن تصلي إليه ؟!”.
فأجابت “أليس”: ” أنا لا أهتم كثيرًا لأيّة وجهة سأذهب”.
حينئذٍ قالت لها القطّة: “إذن.. لا يهم في أي اتجاه تذهبين”.

نعم طالما لا نهتم لأي وجهة سنذهب فكل الوجهات لن توصلنا لأي مكان، فكيف وحال استراتيجيتنا الوطنيّة..!؟

إنها الاستراتيجية التي تمثل مجموع الخطط البعيدة المدى لتطوّر الدولة، في مختلف المجالات وحمايتها من كافة الأخطار، واستعدادها لمواجهة المجهول والمستقبل الغامض. إذ تشمل خططاً اقتصاديّة، من صناعيّة وزراعيّة وخدماتيّة وعلميّة وإنسانيّة وصحيّة وعسكريّة، وكيفيّة إدارة واستثمار ثروات البلاد، واحتياجاتها وطرق الحفاظ عليها، وتوجيه الطاقات البشريّة من مواطنيها قادرة على قيادة دفّة الأمور في المستقبل بهدف الارتقاء بمستوى الحياة والتحسّب للطوارئ التي قد تحدث..

فأين لبناننا الحديث، من تلك الاستراتيجيا !؟.

إن عدم تحلِّي السّلطة الإجرائية اللبنانيّة (الحكومة) بوعي كافٍ ولدى مجمل أقطابها كما والشركاء السياسيين فيها لخطر الانهيار، وتفكك أواصر الدولة وتحلل مؤسّساتها، وإتخامها بالمديونيّة، كما واستمرار محاولات التعطيل المستمرّة والمتتابعة، سيؤدي بلبنان إلى الخراب والزوال..

لا يمكن اليوم وبعد ٣١ سنة على تعديل الدستور اللبناني في الطائف عام ١٩٨٩ التكلّم عن عهود رئاسيّة.
إنَّ صلاحيات الرئيس كافّة أصبحت بيد السّلطة الإجرائية، فبعد الطائف أِخذت منه تماماً صلاحية رئاسة السلطة التنفيذية ، فإنه ليس فقط لم يعد لديه غير سلطة مقيدة، بل أصبح بحكم الغير حاضر ، كونه يحضر ولا يصوّت..فهناك فرقاً هيكلياً مهماً في صلاحيات رئيس الجمهورية، بين ما قبل الطائف وما بعده، وعملياً لأن الاحزاب في لبنان متعددة وتتقاطع فيها الطائفيّة والمذهبيّة وهناك ضرورة لتطبيق مبدأ التوافق، حيث كانت هذه الامور تعطي رئيس الجمهورية هامشاً واسعاً في تشكيل الحكومة، وكان بالتالي هو الآمر الناهي في ما يتعلق بالسّلطة التنفيذية. أما اليوم فهو يحضر اذا رغب، ويترأس لكنه لا يصوت.. اذ تم انتزاع السلطة التنفيذية من رئاسة الجمهورية بشكل كامل..

إنَّ أيّة استراتيجيّة وطنيّة بعد تعديل الدستور، يلزمها اليوم سلطة تنفيذيّة (المادة ٦٥ من الدستور) تقرها وتسعى لإنفاذها عبر أخذ ثقة السلطة التشريعيّة..

سبعة عشر حكومة منذ الطائف حتى اليوم بمعدل حياة أطولها السنتان والنصف، قد ورّثت الانهيار الذي كان قد بدأ في عام ١٩٨٥ ليستمر بعد ذلك حتى اجتنى لبنان قسطاً من الرعاية الدوليّة بعيد العدوان الإسرائيلي على أراضيه في العام ١٩٩٦ حيث دفعت مسيرة إعمار بقروض الدول المانحة، وفجأة ظهرت المشاريع ورست المناقصات فكانت البداية مع خمسة مليارات دولار كوعد في مؤتمر أصدقاء لبنان ليظهر بالحقيقة أنَّ ملياراً واحداً فقط سيُمد به لبنان لتبدأ مرحلة الإستدانة المهلكة..على أمل جداوى النمو البديل، إلا أن حسابات البيدر جاءت تنقض كل مقادير الحقل، فنشأت المحاصصة والتهرّب الضريبي والتوظيف العشوائي والفساد، وبمجمل الأحوال فالإستراتيجيا الظرفيّة الدسمة، قادت السياسات الإجرائيّة في البلاد..

لم تكتفِ السياسات الإستهلاكيّة المحفّزة للريعيّة، الضاربة رحم الإنتاحيّة التقليديّة بجعل البنية الماليّة هشّة فحسب، بل سارت خطط الإستدانة كركيزة للنهوض بمشاريع الحكومات باجتراح مديونيّة جديدة فكان المؤتمر الباريسي الأول (باريس ١) عام ٢٠٠١ تبعه ملحق إضافي في العام ٢٠٠٣ (باريس ٢) لكن دون جدوى إلا على مستوى الماليّة العامة وزيادة الثروات السياسيّة واضمحلال الطبقة الوسطى.. وغياب دعم الإنتاجيّة.
كل ذلك المسار استند إلى الريعيّة ففقدان المناعة نحو هشاشة هذا النوع من الإقتصاد السريع الإشتعال كنار جهنَم، تؤججها ذنوب الكافرين ولا تطفئها النوايا الحسنة..
حيث جعل المصرف المركزي منقذ الحكومة في أزماتها وممول المشاريع والمقرض الوسيط بتجاوزه الدور القانوني المجترع له، متقمصاً دور العرّاب الرئيسي لسلطة رأس المال النيوليبرالي حتى الثمالة وفقدانه أدنى مخزونه القومي، بعد أن أثقل كاهله عجز المالية العامة وشلل الإقتصاد العام..

مديونيّة مهلكة أفقدت لبنان مناعته، في ظلّ تضارب في الخطط بين مختلف الحكومات وتعاقب الوزراء الغير إختصاصيين وتراكم المحسوبيات والزبائنيّة، في أمام محاسبة كفيفة بكماء لا يد لها ولا قوّة..

إحدى وثلاثون سنة، وليس هناك من قطاع يقيت نفسه، وليس من خطة مستدامة تموِّل داتها.. لسنواتٍ مديدة، سُيِّب المواطنون لقمة سائغة لأنموذج فاشل، في ظل عجز الحكومات عن توفير خطّة بديلة تقيهم شرّ الغرق، وأخفقت حتى بخلق رابطٍ إجتماعيّ وطنيّ تعاضديّ، فكانت حقوق النّاس مرتكزاً لاتكاليّة مستدامة على تعلية الصوت والمطالبات المستمرّة..

وطنُ الأزماتِ هنا، جُعِل المواطن فيه خاضعاً لاقتصادِ الهَلَع. لا يختلف اثنان أن ما وصلت إليه حالة الإقتصاد اللبناني اليوم هي نتيجة لغياب السياسات الإقتصادية الحكومية. فلا إنماء شامل أو متوازن، ولا خطّة متكاملة.. كرمى الحسابات الطائفيّة والحزبيّة الضيّقة.

لبنان اليوم يتهاوى نحو أتونٍ جهنميّ، سيقضي على كامل مقدّرات صموده وجهود أبنائه، إن لم نعمد لتفضيل المصلحة الوطنيّة على مصالح الجماعات والطوائف والأفراد، وتجفيف منابع الفساد وسدِّ بؤر الهدر، بعد التيقُّن من أنَّ الحركة الإقتصادية هي أنجع مموِّل يغنينا عن الإستدانة، وهذا اليقين لن يتحقق إلا من خلال رسم استراتيجيّة وطنيّة تعتمد بشكل أساسي على الهدف الذي نودّ أن نصل إليه.. و تأليف حكومة تلعب الدور المرسوم لها في المادة ٦٥ من الدستور عبر إناطتها وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها…
أما حان الوقت للتخطيط والتصميم لغير الفشل، وبمعزل عن الزواريب الطائفيَّة، المذهبيَّة والحزبيَّة..؟