أن يحلّ لبنان بين الدول العشرين الأول في العالم بنسبة إحتياطي الذهب ، ليملك نحو ٢٨٦.٦ طناً، بقيمة ١٤ مليار دولار تقريباً ذلك بالأمر النّافع، في ظلِّ تآكل احتياطي العملات الصّعبة..!! ولكن أيذهَب الذّهب في مذاهب السيَّاسة التي لا إياب نافع منها، غير دفع المزيد من الأثمان..؟!
بعد أن شهد الإقتصاد العالمي خلال الحرب العالمية الثانية هزات واضطرابات عنيفة في نظامه النقدي ومعدلات منخفضة لحركة التجارة العالمية، جاءت مجموعة من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٤٣ للتفكير في خلق نظام نقدي جديد يكون أساساً لعلاقات نقدية دولية لعالم ما بعد الحرب، من شأنه ضمان سلامة واستقرار النظام المالي الدولي، وبذلك تم عقد مؤتمر “بريتن وودس” في شهر تموز ١٩٤٤، بولاية نيوهامشبير الأمريكية ضم ٤٥ دولة، حيث تم في ذلك الوقت التوقيع على اتفاقية “بريتن وودس” التي أصبحت فيما بعد أساساً للنظام النقدي الحديث.
تمخَّض عن تلك الإفاقيّة فكرة إنشاء مؤسَّستين ماليّتين عالميّتين، هما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث لعبت كل مؤسسة منهما دوراً رائدا في ترسيخ ظاهرة العولمة نحو تدويل السلع والأفكار ورؤوس الأموال على مستوى العالم، والتي تعتبر السّيادات الوطنيّة أولى ضحاياها.
إن امتلاك لبنان للذهب يعود للعام ١٩٤٨ بعد انضمامه إلى صندوق النقد الدولي عام ١٩٤٧ والاعتراف بالليرة اللبنانية كعملة مستقلة وفك ارتباطها بالفرنك الفرنسي ، فحددت آنذاك قيمتها بما يوازي ٠.٤٥٥ ملغرام من الذهب ، وسعر صرفها تجاه الدولار ب ٢.٢٠ ليرة .
لقد زادت الحكومات المتعاقبة احتياطات المصرف المركزي واستحواذ الذهب ، وبخاصة بعد صدور قانون النقد والتسليف .
يرمز امتلاك الدولة هذه الكمية الكبيرة من الموجودات الذهبية إلى الصلابة التي امتازت بها الليرة اللبنانيّة قبل الحرب، عندما كان الذهب يدعم قيمة أي عملة دولية غير أنَّ هذه القاعدة لم تعد قائمة منذ إلغاء الولايات المتحدة الأميركية التغطية الذهبية للدولار في عام ١٩٧١ حيث فرضته كبديل للذهب لتغطية العملات الأخرى كإحتياطي صلب..
في تلك الفترة كانت الدولة اللبنانية قد زادت موجوداتها الذهبية تدريجاً، ورفعتها من ١.٥ طن في عام ١٩٤٨ إلى ٢٨٦.٦ طناً في عام ١٩٧١، لتحافظ على تلك الكميَة مذاك الحين..
لقد نجحت الدولة اللبنانيّة في حماية ثروتها الذهبية داخلياً من السَّطو والفساد بسنّ القانون رقم ٤٢ في عام ١٩٨٦ الذي منع مصرف لبنان من التصرّف بالموجودات الذهبية لأي سبب، مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته ..وهو قانون لا يزال ساري المفعول حتى اليوم. ولكن هل تنجح في حمايته خارجياً..؟!
ترتبط معتقدات حماية الذهب هذه بصور موجات انهيار سعر صرف الليرة بين عامي ١٩٨٢ و١٩٩٢، وما نتج عنها من إفقار الشريحة العظمى من اللبنانيين التي تتقاضى أجورها وتحفظ مدّخراتها بالعملة المحلية. وعلى الرغم من أن الموجودات الذهبية لم تمنع الانهيار حينها، لأن سعر الصرف لم يعد مغطّىً بالذهب ببساطة.
يعيد التاريخ الحديث السيناريو ذاته للتطبيق ، حيث سبعة عشر حكومة منذ الطائف حتى اليوم بمعدل حياة أطولها السنتان والنصف، قد ورّثت الانهيار الذي كان قد بدأ في عام ١٩٨٥ ليستمر بعد ذلك حتى اجتنى لبنان قسطاً من الرعاية الدوليّة بعيد العدوان الإسرائيلي على أراضيه في العام ١٩٩٦ حين دُفعت مسيرة إعمار بقروض الدول المانحة، وفجأة ظهرت المشاريع ورست المناقصات فكانت البداية مع خمسة مليارات دولار كوعد في مؤتمر أصدقاء لبنان ليظهر بالحقيقة أنَّ ملياراً واحداً فقط سيُمد به لبنان لتبدأ مرحلة الإستدانة المهلكة..على أمل جداوى النمو البديل، إلا أن حسابات البيدر جاءت تنقض كل مقادير الحقل، فنشأت المحاصصة والتهرّب الضريبي والتوظيف العشوائي والفساد، وبمجمل الأحوال فالإستراتيجيا الظرفيّة الدسمة، قادت السياسات الإجرائيّة في البلاد..
لم تكتفِ السياسات الإستهلاكيّة المحفّزة للريعيّة، الضاربة رحم الإنتاحيّة التتقليديّة بجعل البنية الماليّة هشّة فحسب، بل سارت خطط الإستدانة كركيزة للنهوض بمشاريع الحكومات باجتراح مديونيّة جديدة فكان المؤتمر الباريسي الأول (باريس ١) عام ٢٠٠١ تبعه ملحق إضافي في العام ٢٠٠٣ (باريس ٢) لكن دون جدوى إلا على مستوى الماليّة العامة وزيادة الثروات السياسيّة واضمحلال الطبقة الوسطى.. وغياب دعم الإنتاجيّة.
اليوم ، معظم إحتياطي الذهب موجود في الولايات المتحدة الأميركية ، وعملياً ، أصبح منذ عام ١٩٩٦ ، رهينة تنازل الدولة عما يسمى الحق السيادي العائد لها ، إذ ضمنت كل عقود الإستدانة من الخارج بالعملة الصعبة هكذا بند .. ما يعني أنه في حال التخلّف عن الإيفاء لدى الإستحقاق حُقَّ للدائن الاستحصال على قرار قضائي أجنبي بخاصة من الولايات المتحدة والحجز على موجودات الدولة اللبنانية في الخارج ..
وذلك خلافاً لمبدأ تمتع الدول بحصانات بوجه التنفيذ عليها ما لم تكن متنازلة عن هذا الحق وهو الأمر الحاصل منذ العام ١٩٩٦ وللتذكير أن عددا من الدول ، بينها ألمانيا وهولندا وتركيا ، لم تتمكن من استعادة ذهبها من الولايات المتحدة لدى طلبه ..
إن الحماية القانونية للذهب تبقى مفاعيلها محليّة، فليس للقانون ٤٢ أية مفاعيل خارجية لحماية الذهب، فهو محفوظ في قلعة فورت نوكس في الولايات المتحدة، وإنَّ انتقال الدولة إلى الاستدانة بالعملات الأجنبية في عام ١٩٩٦، وقبولها بشروط التقاضي أمام غرف التحكيم الدولية ومحاكم نيويورك في حال التخلّف عن السداد، يضعان موجودات الذهب أمام مخاطر تنفيذ الحجز عليها في حال تخلُّف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها .
إنَّ حماية الذهب اليوم لا يضمنها القانون رقم ٤٢، وإنما فقط استعادة الذهب وإيداعه في لبنان لنفاذ القانون المذكور.
لقد كانت فكرة بيع الذهب أو استثماره موجودة على الدوام، و تثار في كل مرّة يواجه فيها لبنان أزمة تمويل بالعملات الأجنبية. حيث ظهرت في التسعينيات بحجّة تمويل مشاريع الإعمار، وظهرت مجدّداً في باريس ٢ أيضاً بحجة إطفاء جزء من الدين العام، ويُعاد طرحها اليوم بحجة دعم الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان وتفادي الاقتراض الخارجي لدعم ميزان المدفوعات.
كل ذلك المسار الخطير استند إلى الريعيّة ففقدان المناعة نحو هشاشة هذا النوع من الإقتصاد السريع الإشتعال كنار جهنَم، تؤججها ذنوب الكافرين ولا تطفئها النوايا الحسنة..
لقد جُعل المصرف المركزي منقذ الحكومة في أزماتها ومموِّل المشاريع والمقرض الوسيط بتجاوزه الدور القانوني المجترع له، متقمصاً دور العرّاب الرئيسي لسلطة رأس المال النيوليبرالي حتى الثمالة وفقدانه أدنى مخزونه القومي، بعد أن أثقل كاهله عجز المالية العامة وشلل الإقتصاد العام..
مديونيّة مهلكة أفقدت لبنان مناعته، في ظلّ تضارب في الخطط بين مختلف الحكومات وتعاقب الوزراء الغير إختصاصيين وتراكم المحسوبيات والزبائنيّة، في أمام محاسبة كفيفة بكماء لا يد لها ولا قوّة..
إحدى وثلاثون سنة، وليس هناك من قطاع يقيت نفسه، وليس من خطة مستدامة تموِّل داتها.. لسنواتٍ مديدة، سُيِّب المواطنون لقمة سائغة لأنموذج فاشل، في ظل عجز الحكومات عن توفير خطّة بديلة تقيهم شرّ الغرق، وأخفقت حتى بخلق رابطٍ إجتماعيّ وطنيّ تعاضديّ، فكانت حقوق النّاس مرتكزاً لاتكاليّة مستدامة على تعلية الصوت والمطالبات المستمرّة..
لقد ألزمت المادة ٦٩ من قانون النقد، المصرف المركزي بأن يبقي في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي (٣٠ بالمئة) ثلاثين بالمئة على الاقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب, على ان لا تقل نسبة الذهب والعملات المذكورة عن (٥٠ بالمئة) خمسين بالمئة من قيمة النقد المصدر.
و تضيف المادة ٦٩ أنه لا تؤخذ موجودات المصرف من النقد اللبناني بعين الاعتبار لحساب النسبتين المحددتين في الفقرة السابقة.
إنَّ حيازة الذهب كإحتياطي، والسعي لوجوده كتغطية دائمة للنقد المُصدّر، ضمانة أساسية مطلوبة بموجب المادة ٦٩ من قانون النقد والتسليف، التي توجب على مصرف لبنان أن يُبقي في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية لضمان سلامة تغطية النقد اللبناني، كذلك فإنه يشكّل عامل ثقة بالبلاد، أسوة بما تقوم به بعض المصارف المركزية في العالم وصندوق النقد الدولي.
اليوم ومع تدنّي احتياطي المصرف بالعملات الصعبة لمستوى مقلق وغير معلوم، يطلعنا البعض بأن قيمته ٨ مليارات دولار أميركي ليخالفهم آخرون بما هو دون الأربعة مليارات.. يجعل الأمور أجزل تعقيداً بحيث يملك مصرف لبنان من كمية النقد الورقي المتداول بالعملة الوطنية ١٧.٥ ترليار ليرة لبنانية أي ما يعادل ١١.٦ مليار دولار بحسب سعر صرف الدولار الرسمي، أما الخمسين بالمئة من كمية النقد المصدَّر فتساوي ٥.٨ مليار دولار على أساس السعر الرسمي.. وطبعاً من يراجع تلك الأرقام، محتسباً قيمة إحتياطي الذهب بالدولار الأميركي الذي يوازي ال ١٤ مليار دولار، يخال أن مصرف لبنان ما زال يحتفظ بملاءتةٍ حيويّة، ضمن إطار نص المادة ٦٩ من قانون النقد المذكورة..
إنَّ، مصرف لبنان اليوم مدين للمصارف التجارية بنحو ٨٤ مليار دولار، كما و يشكّل محوراً أساسياً لخسائر النظام المالي تمنُّع الدولة عن سداد ديونها..
إذن، ما الجدوى من طرح بيع احتياطي الذهب في هذا التوقيت..؟، أهو تغطية للتنفيذ عليه..؟! وفي كلا المكنونين نوايا هدَّامة للنظام النقدي ككل..!؟ وهل أنِّ الذين ضمّنوا عقود المداينة منذ العام ١٩٩٦ بنود التنازل الحُكمي عن حق السيادة على موجودات الدولة خارج أراضيها هم ذاتهم من نفذوا مخطَّط نقل هذا الإحتياطي الاستراتيجي الوطني ووضعه في خزائن الولايات المتحدة في ظل نفاذ القانون رقم ٤٢ / ١٩٨٦ بعد معارضة سنّه..!!؟
تُغدِق الحسابات السياسيّة في لبنان دوماً بالسلبيَّة على الإقتصاد، لكن أن تصاغ جميعها مستهدفةً مقومات الصمود إنتصاراً لخطة، ومنفعةً لذات، واستبدالاً لمركز، وإفشالاً لاستراتيجيية وطنيّة..!! هو قمّة اللعب على حافة الهاوية حيث المخاطرة أمضى من الرهان حتى على الحياة بذاتها..