حتى الأديان لم تنادِ برفاهيّة الإنسان بل بصالحه العام..
لتأتي الشرائع الوضعيّة أيضاً مكرِّسةً مبادئ المساواة وتحرير المبادرات الفرديّة فتعطي كل امرئ حق الترقّي والتدرج والتنافس، تحقيقاً لرفاهيته قدر ما يجتهد..
أمَّا، وأن تهدف السياسات الظرفيّة لجعل المواطن يثري على حساب الصالح العام منن خلال سياسات دعم مؤبّدة، فذلك نذير سوء إدارة و عبث بـ أمن المجتمع الإقتصادي ما يخلق فوارق إجتماعيّة مبنيّة على الزبائنيّة والمحاصَصَة، بعد ضرب مبدأ المساوات أمام الأعباء العامّة والتنمية المتوازنة والمستدامة.. إنها سياسات الدّعم الحكوميّة المباشرة.
المبدأ أنَّ الدّعم الحكومي في لبنان سياسة ظرفيّة إستثنائيّة تهدف إلى التصدّي لخلل آني في قطاع ما قد يكون في الغالب قطاعاً إنتاجياً تعرَّض لنكسة مفاجئة، كارتفاع أسعار المواد الأوليّة لقطاعٍ استراتيجي حيويّ. فتأتي الغاية من الدعم لتثبيت الأسعار وإبقائها بمتناول المستهلك والمنتج على حد سواء، بغية تمكين فئات إجتماعيّة محدودة الدخل من الحصول على بعض السِّلع والخدمات الأساسيّة مخفَّضة الأسعار، إنَّه الدعم المباشر.
غالباً تقوم آلية الدّعم على تسديد خزينة الدولة للفارق بين السّعر الحقيقي للمنتج أو الخدمة، والسّعر الذي يُحدّد له قياساً بمستويات الدخل الدنيا.
على أنه يوجد أنواع أخرى من الدعم التي تعرف بالدّعم القطاعي لاستثمارات ميسّرة من قبل الدولة تتيح لبعض القطاعات الإنتاجية الإنتعاش.
من المفيد بمكان التذكير أنَّ دولاً غربيّة عديدة لجأت للدعم القطاعي الظرفي منها فرنسا وإسبانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية..الخ
غير أن مفهوم الدّعم، لا فقط في لبنان بل بشكل عام) بقي على المستوى المباشر المحفّز للسياسات الإستهلاكيّة الريعيّة، تلك السّياسات الخاطئة التي ضربت رحم الإنتاحيّة التقليديّة ولم تكتفِ بجعل البنية الماليّة هشّة فحسب، بل سارت على خطط الإستدانة كركيزة للنهوض بمشاريع الحكومات باجتراح مديونيّة جديدة بغياب دعم الإنتاجيّة الملحّة.
لقد زادت سياسات الدَّعم الحكوميّة من هشاشة الإقتصاد القومي الوطني الذي أصبح سريع الإشتعال كنار جهنَم، تؤججها ذنوب الكافرين ولا تطفئها النوايا الحسنة..
نعم، لقد جُعل المصرف المركزي منقذ الحكومة في أزماتها ومموّل القطاعات وداعم الخدمات، والمُقرض الوسيط بتجاوزه الدَّور القانوني المجترح له، متقمصاً دور العرّاب الرئيسي لسلطة رأس المال النيوليبرالي حتّى الثّمالة وفقدانه أدنى مخزونه القومي، بعد أن أثقل كاهله عجز الماليّة العامّة وشلل الإقتصاد العام..
سياسة دعم مهلكة أفقدت لبنان مناعته، و غيبت مبادرات أبنائه الإنتاجيّة وشجعت الخمول والإحتكار في ظلّ تضارب في الخطط بين مختلف الحكومات وتعاقب الوزراء الغير إختصاصيين وتراكم المحسوبيّات والزبائنيّة، في أمام محاسبة كفيفة بكماء لا يد لها ولا قوّة..
هنا برزت المحاباة واستغلال السلطة أمام مختلف التحديات التي يُثيرها موضوع الدّعم الحكومي خاصّة المباشر منه.
لقد صار تحديد قطاعات التدخل ( القطاعات المدعومة) والجهات المستفيدة فيها أدوات روتينيّة إداريّة، تسهّل عمليات الرّشوة والتهريب واستغلال النفوذ والفساد المالي.
ولأن كان اقتصاد لبنان يتّصف بالليبيرالي الحرّ، تزعم الليبراليّة أنه حينما تتوفر الحريّات الاقتصاديّة (حريّة الملكيّة والمبادرة والعمل والتنقل)، يكفي أن يجري كل فرد من أفراد المجتمع نحو مصلحته الخاصّة كي تتحقق المصلحة العامّة للمجتمع تلقائياً.
وترى تبعاً لذلك أن الرابط الاجتماعي بين الناس هو رابط اقتصادي وأن النظام الطبيعي داخل المجتمع هو نظام اقتصادي يقوم على تبادل المنافع بين الأفراد، وتؤكد نتيجة لذلك على ضرورة خضوع السياسة لهذا النظام.
أما ما يخالف المبدأ العام، هو الذي نتمسك بعكسه لبنانياً حيث عامةً تركز الليبرالية كثيراً على أهمية إبعاد الدولة عن التدخل في تدبير الشأن الاقتصادي، عبر قيامها فقط بتوفير الحقوق الاقتصادية للناس وسن القوانين والتشريعات الكفيلة بضمان هذه الحقوق والسهر على حمايتها من أي انتهاك قد يمسها. في حين أن الحكومة اللبنانية تأبى تحرير السوق من تدخلات الدعم المباشر. بدءاً بدعم سعر الصرف والإستيراد والتجار والصناعات والمواد الإستهلاكية وفواتير الجباية والأدوية والمستلزمات الطبية والأسمدة الزراعية والقمح والشعير وتصدير الإنتاج واللحوم والمحروقات .. سياسة دعم مهلكة يمولها المودع دون أن يعلم عبر هندسات ماليّة خلطت كل الأوراق ليتضح أن ما وفره المواطن من جراء استهلاكه السلع المدعومة سرعان ما دفع أضعافه جنى عمره، فلو علم قبلاً بذلك لما ارتضى بالريعيّة لا بل كان عوّل على إنتاجيته وضمن استقراره بالحد الأدنى.
واحدةٌ وثلاثونَ سنةً، ولم تبنِ الحكومات المتعاقبة أيَّ قطاعٍ يُقيت نفسه، ولم تكلِّف نفسها عناء وضع خطّة مستدامة تموِّل ذاتها.. لسنواتٍ مديدة، سُيِّب المواطنون لقمة سائغة لأنموذج فاشل ودعاية مستقطبة و وعود مغدقة بالعيش الرغيد، فتصاعد نمو القطاع المصرفي المتحكّم بمقابل عجز الحكومات عن توفير خطّة بديلة من الإستدانة تقيها شرّ الغرق، وأخفقت حتى بخلق رابطٍ إجتماعيّ وطنيّ تعاضديّ، فكانت حقوق النّاس مرتكزاً لاتكاليّة مستدامة قائمة على توسيع مروحة الإعتمادات المالية المهلكة نتيجة تعلية الصوت والمطالبات القطاعيّة المستمرّة.
وطنُ الأزماتِ هنا، جُعِل المواطن فيه خاضعاً لاقتصادِ الهَلَع.
وشجاعة وجوه أهل الحكم، أتخمت المسامع بمشاريعَ وخططٍ للنقل والطَّبابة وضمان الشَّيخوخة والكهرباء وسكك الحديد والتنمية المستدامة والمَكنَنَة في القطاعات والإنماء المتوازن، ليأتوا في آخر المطاف فارغي الأيدي حتى من سلطة الإدارة، ولا يطرحون غير ترشيد الدَّعم..! علهم يطيلون أمد الإستنزاف لحينٍ قد تتأمن فيه ظروف أو تسويات تمدهم بجرعات منقذة.
إنَّها سياسة المَراهِم، فلا يختلفنَّ اثنان أن ما وصلت إليه حالة الإقتصاد اللبناني اليوم كانت نتيجة غياب الخطط الحكوميّة العلاجيّة.. حيث المراهم المجترحة والموصوفة من قبل المتحكمين برأس الإدارة، خدّرت عمليات الإنماء الحقيقي الشامل والمتوازن، فلا خطّة متكاملة كرمى الحسابات الطائفيّة والحزبيّة الضيّقة.
يُحدِثون العاهات و يعالجونها بالمَرَاهِم، ولا يجيدون غير الوعود والإستنكار والإِحْتِجَاج والتعبير عن الإِسْتِياء والإِعْتَراض والشَجْب والنَّفي.. أولئك ساسة بلادي.
أمّا بعد..
فهل تنفع المراهم لعلاج صفعات الأزمنة..؟