حينَ يُصافِح العِلْم الشَّيطان….ويَبتَسِم: مفارقة آينشتاين وسقوط الرِّسالة الإنسانيّة ـ بقلم المحامي زياد فرام

اخطارٌ جديدة تطلّ علينا، محمّلٌة بمؤشرات دولية مقلقة، وكأن العالم يعيد تصفّح دفاتر التاريخ قبيل اندلاع العواصف الكبرى. من يقرأ المشهد بعين الذاكرة لا تغيب عنه توثيقات ما بين الحربين العالميتين: تصاعد الحركات السلمية من جهة، وتنامي النزعات القومية والثأرية من جهة أخرى. هي تلك المرحلة الرمادية التي تسبق الانفجار، حين تتكاثف الخطابات وتحتقن الضمائر.

فالحرب العالمية الثانية لم تكن حدثًا عابرًا، بل لحظة تاريخية غيّرت وجه البشرية. أعادت رسم الخرائط، وهدمت البنى الاجتماعية، وفتحت أبوابًا جديدة للعلم… لا إلى النور، بل إلى أشد أنواع الظلمة.

في عام 1939، كانت ألمانيا النازية تخطو بخطى ثابتة نحو برامج تسلّح متقدمة، من بينها الطاقة النووية. فرنسا كانت سبّاقة بخطوات في أبحاث الانشطار. في هذا السياق، وجّه عدد من العلماء – من أبرزهم ألبرت آينشتاين – رسالة إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت يحذّرونه فيها من خطر امتلاك هتلر لسلاح نووي. الرسالة حرّكت عجلة “مشروع مانهاتن” الأميركي، وأطلقت سباقًا محمومًا لصنع القنبلة قبل أن تسبقهم ألمانيا.

هنا تبدأ المفارقة القاتلة. آينشتاين، الذي كان دائمًا من دعاة السّلم، وممن يرفضون الحرب بوصفها طريقًا للخراب، وجد نفسه في خندق القرار الصعب: أن يستخدم علمه لإنتاج سلاح الدمار الشامل، تحت ذريعة منع “الشر الأعظم”. لكن ما حدث لاحقًا جرّد كل تبرير من معناه.

بعد أن ألقيت القنبلة على هيروشيما، لم يتردد آينشتاين في التعبير عن ندمه العميق، قائلاً: “أمريكا ربحت الحرب، لكن الإنسانية خسرت السّلام. صنعنا القنبلة لمواجهة الألمان، فإذا بترومان يُلقيها على اليابانيين. يا لها من خيانة.”

ذلك الاعتراف لا يُدين رجلًا واحدًا، بل يُعرّي منطقًا كاملاً حكم القرن العشرين: أن يُسخَّر العلم لخدمة الهيمنة، لا لخدمة الإنسان. وليس مشروع مانهاتن سوى بداية لهذا المنعطف الخطير.

إننا أمام ظاهرة أعمق من مجرد مفارقة شخصية. ففي كل محطة كبرى من محطات التقدّم العلمي، يظهر هذا السؤال الأخلاقي الكبير: من يتحكّم في وجهة المعرفة؟ وهل يمكن للعقل أن يبقى نزيهًا حين يُفرغ من قيمته الإنسانية؟

الفيزياء التي طوّرت القنبلة، هي نفسها التي أوصلت الإنسان إلى القمر. والإنترنت الذي نستخدمه اليوم، انطلق من مشروع عسكري خلال الحرب الباردة. حتى العلماء الذين قادوا برامج الفضاء كانوا في الأصل مطوّري صواريخ في آلة الحرب النازية.

هذه الأمثلة هي شواهد على أن العلوم – في غياب وازع أخلاقي واضح – تتحوّل إلى أدوات طيّعة في يد من يملك السلطة، لا من يملك الحكمة. هنا يصبح العالِم مجرّد موظف في خدمة “الضرورة الإستراتيجية”، ولو كانت نتيجتها إبادة حضارة أو تشويه ضمير.

إن فصل العلم عن رسالته الأصلية – خدمة الإنسان وتوسيع أفقه – هو أخطر ما يهدد البشرية اليوم. فالمشكلة لم تكن في الفيزياء، بل في القرار السياسي الذي استخدمها. لم تكن في الذرّة، بل في من فَجَّرها على رؤوس الأبرياء.

واليوم، فيما يتزايد الكلام عن سباقات تسلح جديدة، وذكاء صناعي غير مقيّد، وأسلحة بيولوجية قد تُحرّك من خلف الستار، لا بد أن نستعيد دروس الماضي القريب. لأن التاريخ لا يُعيد نفسه، لكنه يتسلل إلينا حين نغفل عنه.

ختامًا، يبقى السؤال الأخطر معلقًا:
هل ما زال للعلم وجه إنساني؟
أم أننا نعيش في زمنٍ تُصافح فيه العقولُ الشياطينَ… وتبتسم؟