اصعب أنواع الدَّين ذاك الذي يرغمك على تمويله ليرهن كلّ مقدّراتك، لا بل مستقبلك برمّته فيضيع كلّ شيء بسبب سوء إدراك وربما غلطة كي لا نقول سوء نية..
تستحضرني واقعات إحدى روايات الأدب الفرنسي، عن شاب وشابة نشآ في بلدة صغيرة.. ليتزوجا وينتقلا للعيش في باريس فسكنا في شقة جميلة وبدآ يحققان أهدافهما بمرور الأيام.. وفي الحيّ الذي سكنا فيه تعرفت الشّابة التي تدعى ” صوفي” على سيّدة ثريّة لطيفة المعشر..
وذات يوم طلبت منها استعارة عقد لؤلؤ غالي الثمن لحضور زفاف في بلدتها القديمة. وافقت السيّدة الثريّة وأعطتها العقد وهي توصيها بالمحافظة عليه. ولكن الزّوجة اكتشفت ضياع العقد بعد عودتها وزوجها “باتريك” للشقة فأخذت تجهش بالبكاء فيما انهار الزّوج من أثر الصّدمة.. وبعد مراجعة كافة الخيارات قررا شراء عقد جديد للسيدة الثريّة يملك الشّكل والمواصفات نفسها.
لقد باعا كلّ ما يملكان واستدانا مبلغاً كبيراً بفوائد فاحشة.. واشتريا عقداً ممطابقاً وأعاداه للسيدة التي لم تشك مطلقاً في أنّه عقدها القديم. غير أنَّ الدَّين كان كبيراً والفوائد تتضاعف باستمرار فتركا شقتهما الجميلة وانتقلا إلى غرفةٍ حقيرةٍ في حيٍّ قذر.. ولتسديد ما عليهما تخلَّت الزوجة عن حلمها القديم وبدأت تعمل خادمة في البيوت.
أما الزوج فترك الرَّسم وبدأ يشتغل حمَّالا في الميناء.. وظلّا على هذه الحال خمساً وعشرين عاماً ماتت فيها الأحلام وضاع فيها الشّباب وتلاشى الطّموح.. وذات يومٍ ذهبت الزوجة لشراء بعض الخضراوات لسيّدتها الجديدة وبالصّدفة شاهدت جارتها القديمة فدار بينهما الحوار التالي :
ـ السيدة: عفواً هل أنتِ ” صوفي” ؟
ـ ـ نعم، من المدهش أن تعرفيني بعد كل هذه السنين..!!
ـ ياإلهي تبدين في حالة مزرية، ماذا حدث لكِ، ولماذا اختفيتما فجأة..!؟
ـ ـ أتذكرين ياسيّدتي العقد الذي استعرته منكِ..!؟، لقد ضاع منّي فاشترينا لكِ عقداً بديلاً بقرضٍ ربويٍّ، ومازلنا نسدد قيمته..
ـ يا إلهي، لماذا لم تخبريني يا عزيزتي؛ لقد كان عقداً مقلّداً لا يساوي خمسة فرنكات..!!
نعم إنه الدَّين المزيَّف !!.. الدَّين الذي لم يفِد بشيء سوى دائنه.
دينٌ على مدارِ ثلاثة عقود ونيِّف في خدمة العجز بَدَل دعم النّموّ..
المزيد من الإستدانة دون الإعتماد على أيّة إجراءات هدفت لتقليص نفقات الدّولة اللبنانيّة وتعزيز إيراداتها من خلال زيادة إنتاجية القطاع العام.
إنه دين الكلفة التشغيليّة..
خطط قصيرة الأمد ، تنمية موهومة.. بل تنظير، في بلد مرتهن إقتصادياً للدَّين العام.. !!
وأين صُرِفَ هذا الدَّين العام؟ حيث لا بُنَى تحتية مؤهلة ولا منشآت حديثة ولا مرافق استيعابية متطوّرة.. !!
وها نحن نطأ مرحلة ما عاد النظام المالي فيها قادراً على المضي في إمداد هذا التورّم الهائل بالمديونية العامة.
مَن يَقترض ولا ينوي التَّسديد ، لا يَنظُر في شروطِ العقد – [سرفانتيس]
وهنا التَّبعة لا تكون على المدين بلّ على الدّائن أو المُقرِض .. فمن يُقرض عاجزٍ عن الوفاء، يكون قاصداً لَيّ ذراعيه أو طمعاً في جعلِه أسير مطالبه وربّما السّيطرة على مقدّراتِ هذا المديون التي لم يعلم هو قيمتها..
إنَّ الخيارات باتت محدودة وأخطرها الإنهيار.. حتى أنَّ شراء المزيد من الوقت قد لا يكون متاحاً..
فيصحّ القول بأنَّ التوافق أخفق الأمور في بلدِ التَّسويات والتَّحَاصُص..
حيث الأمور لم تُدار يوماً بالأنسب والأمكَن والأفضَل..
أيعقل أن يكون القطاع الخاصّ المُقرِض لم يبتغِ الشراكة بل الإستئثار..؟
لتنتهي مصادر التمويل بتسعير كلفة التمويل بروحٍ من الإحتكارية الهادفة لتهميش كلّ أفضليات أسواق المال، فترتفع خدمة الدين نسبة إلى إيرادات الخزينة لحدّ 52% ، أما نسبة الدّين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وصلت إلى 161% ، وها قد تربّع لبنان عرش واحدة مم أعلى نسب الدين إلى الناتج في العالم..
ولأجل كلّ هذا الوَهم.. إنَّ مصلحة الدائنين ترغمهم على الاستمرار بالمشاركة في إقراض القطاع العام، دون أن يكون لديهم أية خيارات أخرى ..
على أمل أن تصبح كل تلك الدّيون السّيادية، معقودة لمواجهة أحوال طارئة بتمويل مشروعات التنمية الحقيقية، مع ضرورة العمل السّريع على حماية ضحايا الأزمة..
خمسة عشر عاماً وفوقها أحد عشراً، ومَجدُ السّنواتِ الثّلاث، قد تضيع بواقعِ عقدٍ من أوهام..!!