بانتظارِ عُبُورِ الغَضب: من إقتصَادِ الثلاجَة إلى اقتصَادِ النملِيَّة ـ بقلم المحامي زياد فرام

strategicfile.com

نَحن نَعتاش على فتاتٍ يكَادُ ينضب، نتقاتل على مخلفاتٍ نتنة، نتصارع فوق كومة ركامٍ، إستهلاكيُّون لا طائل لنا غير خطابات ما حققت إلا صداحٍ خلف المنَابِر.

ألَعلَّ الجوعَ يُرضي الأُسُود بالجِيَفِ..!!

والعالَم ينزلق لهيجاءٍ كونيّة، نتربص في عجبٍ من معامِعَ محليّة تجعلنا نحيد أبصارنا عن مآسينا فنظنها نعمةً وسَكينة.

لبنان اليوم يتحلَّل حتى درجة العجز فالموت البطيء، بكلِّ ما في مرافقه من قدرة بعد على الإستمرار، تحلّله بنيوي يحدو به نحو الخطر الداهم دون أن يقتله. فبالرغم من أنَّ الوضع الداخليّ يتمايل فوق أسلاك التطورات الخارجية، إلا أنَّ الإنهيار قد ناهز حدود لم يعد الإنقاذ معه ممكناً، فهل سنشهد انفجارات داخلية تبعاً لما تطالعنا بعض وجوه الأزمة في أكثر من مجال..؟!

ربما اليوم لم تعد الفوضى فزاعة هذا النظام المهترئ فقد كان لها ولم يزل محفِّزات وإسنادات لحدوثها وللحين ما نشبَت، وما أفسدت للود قضية..

قد يبدو الأمر غير طبيعيٍّ، فهذا الصَّمت المُطبق فيه ريبة، لكنّه وبكل تأكيد يؤشر بأن الأمور لا تسير بنمطٍ صامِتٍ.. فالمنطق بأن الأزمات التي تصيب الدول، تخلق موجات إحتجاجيّة و غضباً عاماً يستوي والجهوزيّة اللاإراديّة للفوضى الخلاقة والإنفجار الحتمي.. أما أن تصل الأمور بشعبٍ سُلِب جنى سنينه وجُعِلَ شعباً متسولاً وألا يفتح فاه ويتذمر، فهذا هو التحلُّل الذي يضرب حتى القدرة على قلب الطاولة.. شعبٌ ما عاد لديه أدنى ثقةٍ بقدرتِه على تخطي أزمته، شعبٌ كُسِرت كرامته و ضُرب عنفوانه وصودِر قراره.. شعبٌ أصبح كالمُدمِن على المخدّرات التي تمنحه الإنتعاش والثّقة بالنفس بداية المرحلة، لتظهر تباعاً أعراض الإنسحاب وعدم القدرة على السيطرة على الذات فالإنهيار المحتوم بالرغم من زيادة جرعاتها..

لبنان اليوم لن يكون مفترشاً للفوضى، فتلك الفرضيّة طمرها الفاصل الزمني حتى منتصف العام ٢٠٢٠ حيث كانت أرضيته مهيأة كباقي الدول العربيّة لمختلف العمليات السياسية والعسكرية، فبعد تفكُّك القواعد السائدة وانحسار أدواتها أصبح لبروز الفاعلين السياسيين الإقليميين والدوليين في منطقتنا دوراً في إعادة صياغة وتشكيل فضاء جيوسياسيٍّ عربيٍّ جديدٍ كان قد عاشِ لعقودٍ خلَت على إيقاعِ الفوضى.

من يقرأ أبعاد دخول الفاعل الروسي على خشبة الأحداث العالمية من خلال البوابة السورية بدايةً من ثم الأوروبية حالياً، بعد أن كان قد تراجع دوره إبَّان المدّ الأميركي الآحادي، ييقن ما اختاره الروس من تبوُّؤ مكانتهم السابقة في العالم من خلال الحضور الجديد والمغاير في منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط، والقيام بفرض نفسهم رقمًا جديدًا ولعب دوراً حاسماً في تغيير المعادلات السياسية في المنطقة.

لقد شكَّلت الفوضى التي شهدتها المنطقة العربيّة دافعاً قويًّا لعودة الدبّ الروسي لمسرح الأحداث العالميّة وفرض أجندته داخل هذه المنطقة وخارجها. وفي ذلك مسعى لإحياء فكرة روسيا القيصرية التي يتزعمها الرئيس فلاديمير بوتين.

لقد ولَّى زمن الفوضى في ظروف إقتصاديّة صعبة لا يعاني منها وطننا منفرداً، بل يرزح تحت نيرها المجتمع الدولي بأسرِه.

أزمة وقودٍ ومحروقاتٍ وكهرباءٍ وقمحٍ وتصدير.. هذا العَالم المُعاصِر، المُنهزِم بذاتِه، المُتَناحِر مع نُفوذِه، المُتخَم بأسواقِه، المَدين والمُقبِل على أزماتٍ إقتصاديَّةٍ حَتميَّة بعد خروجه من وَباءٍ طُوِّرَ لإفقَاره..

الجميع في الداخل والخارج بات يعلم أن الفوضى أشد فتكاً بالمجتمع من وقيعَة الوغى، فتفكُّكِ المُجتمعات أصعب استجماعاً من ترميم مخلفات الحروب..
أمّا الذين يخوضون عبثيّة شعارات استعادة الحقوق ( المالية والطائفية..الخ) وينشدون الفوضى على قاعدة “زيح تا إقعد مطرحَك” اخترنا لهم تلك القصّة : في عهد الإمبراطورة ” كاثرين العظيمة ” التي حكمت روسيا في الفترة ما بين عامي ١٧٦٢ و١٧٩٦ التي خلفت زوجها بيتر الثالث بعد أن أعدمته.. نبت فجأة شخص ادعى أنه بيتر الثالث عام ١٧٧٣ وهو من قبائل الكوزاك يدعى ” إيمليان بوغاتشيف “، لقد  قاد ثورتهم مطالباً بعرش الامبراطورية الروسيَّة.. جمع حوله الكوزاك والفلاحين وواصل تقدمه نحو الشمال.. خافت الأمبراطورة على عرشها وعرش النبلاء عند قيام الفلاحين بتقاسم الأراضي، فقامت بمنح جائزة مالية كبيرة لمن يمسك ببوغاتشيف قدرها عشرة آلاف روبيل فصار هذا الرجل مطارداً من قبل شعبه إذ قبض عليه وسيق إلى موسكو وأعدم عام ١٧٧٥.

أما بعد، فنحن مقبلون على أزماتٍ سنجتازها بحكمةِ الأجداد واقتصاد النمليّة، سنقبع صَابرين مُتصابرين مُرابطين إلى أن تتكشَّف المُعادلات وتتوضَّح الحسابات وتتركز قواعد اللعبة الكبرى، حتى ذلك الحين لن نخوض حكاية من تغويهم المصالح فيْساقون وراءها وينسون قضيتهم، ولن نقود ثورة كاذبة كثورة “بوغاتشيف”.. لن ندخل في الفوضى رغم مخاوف التحلُّل القطاعي، وما سيستتبعه من تمديد قسري للإستحقاقات الدستوريّة تحت مبرِّر العجز التقني.. بل سنفتح نمليّّاتنا لنتنعَّم بما تيسَّر من قوتٍ حتَّى يَعبُر الغَضب.