في وَدَاعِ وَطَن ـ بقلم المحامي زياد فرام

strategicfile.com

الدولة، مفهومٌ واسعٌ لا يكاد يجمع عليه اثنان، مهَّدته معاهدة صلح وستڤاليا عام ١٦٤٨ ، تلك الاتفاقيّةٍ الدبلوماسيّةٍ التي أرست نظاماً جديداً في أوروبا الوُسطى والغربيّةِ مبنياً على مبدأ سيادةِ الدُّول.

أما التعريف فظهر في نصِّ اتفاقية مونتيفيديو عام ١٩٣٣ الموقع عليها من قبل ١٧ دولة في القارة الاميركية بشأن حقوق وواجبات الدول، حيث جاء بأنها : “مساحةٌ من الأرض تمتلك سكاناً دائمين، إقليماً محدداً وحكومةً قادرةً على المحافظة والسيطرة الفعَّالة على أراضيها، وإجراء العلاقات الدولية مع الدول الأخرى..”

تعاريف مختلفة أعطيت للدولة، جميعها رشحت عن نظريات قائمة على وظيفتها. والجدير بالذكر أنه حين ظهرت الدولة بشكلها المتعارف عليه اليوم، كانت مهمتها مقتصرة على الأمن والدفاع كنشاطات محددة تديرها بواسطة أجهزة إدارية مباشرة حيث عرفت بـ “الدولة ـ الشرطي”، ومع التقدم الذي طرأ في مفهومها منذ نهاية القرن التاسع عشر إنتقلت الدولة لمفهوم ” الدولة ـ العناية” حيث أصبحت تتدخل في مجالات عديدة وحقول متنوعة كانت متروكة للمبادرة الفردية.
لقد أتى التحوّل النظري عبر التدخل العملي، نتيجة الحاجات الجماعية المتزايدة التي رأت الدولة نفسها ملزمة بالتدخل لتأمينها أو إدارتها أو حمايتها، من هنا ولدت نظرية المرفق العام ذات الأبعاد الإجتماعية والإقتصاديّة والإداريّة تكون من خلالها الدولة صانعة للسياسات في كافة المجالات.

لقد شكلت نظرية اللورد الإنكليزي جون ماينارد كينز نقطة تحوّل رئيسيّة في تثبيت دور الدولة التدخّليّة حيث أعطت نظريته أبعاداً جديدة وثوريّة لدور الدولة الإجتماعي من خلال عناصر الإقتصاد الكلّي Macroeconomics وبات للدولة الدور الأساس في الإنفاق لإعادة توزيع الدخل والتنمية وتحفيز الإقتصاد أو إبطائه، وبات للموازنة العامة التي تعدّها الدول سنوياً لتقدير ايراداتها ونفقاتها الدور الحاسم في اتجاهات النمو الإقتصادي والتنمية الإجتماعيّة. وأصبح سعر الفائدة سعر له دور في النمو والتنمية بعيدا عن طبيعته الأصلية كمُراكم للثروات.
لقد نجح كينز في إثبات صحة ما ذهبت إليه نظريته بعد الإنهيار الكبير الذي شهده الإقتصاد العالمي بين عامي ١٩٢٩ و١٩٣٣ والذي أثبت قصور نظرية سلفه آدم سميث المعروف بأبو الإقتصاد the father of economics والتي كانت تدعي أنَّ الدولة وجدت لحماية الحدود والشرطة الداخلية في حين أن المبادرة الفردية تكفل صحّة العلاقات الإقتصاديّة من خلال مفهوم اليد الخفيّة و اعتبار أن قيام الأفراد بمصالحهم يؤدي إلى تحقيق المصلحة العامة للجميع.

من حيث نظريتها، لا يخرج تفسير الأوضاع التي آلت إليها الدولة بعناصرها الثلاث وسياساتها، في لبنان عن الإطار النظري التفسيري الذي عرضنا له أعلاه:

١ـ تخلي الدولة عن مفهوم إحتكار العنف وضعف دور القوى الأمنية النظاميّة تدريجياً في الحفاظ على حدود الارض الوطنية وتلزيم ذلك مرة لدولة إقليمية ومرة للمقاومة الفلسطينية ومن ثم المقاومة الوطنية ومن ثم المقاومة الإسلامية.

٢ـ عدم إنصهار الشعب اللبناني في بوتقة ثقافية واحدة وعدم عمل الدولة على تعزيز ثقافة الوحدة الوطنيّة بل على العكس فقد تمادت السلطة في تجزيء الشعب اللبناني عند كل مناسبة ووضع وسطاء طائفيين زمنيين وروحيبن بين المواطن وحقوقه وبين المواطن والدولة بما أدى لتجاوز حد القانون ومبادئ الحق والواجب والمعاملة التمييزية بين المواطنين بحسب قربهم من نظام الزبائنية السياسية بعيداً عن مبدأ السواسية أمام القانون.

٣ـ إن ممارسة السلطة في لبنان تخرج عن إرساء عنصري الأرض والشعب، حيث تتحول إلى نتيجة للعنصرين السالفين وإلى مفعِّل لفسادهما الإضافي. فلبنان دولة مُحَوكَمة بطريقة شديدة الإعتباطيّة تشبه إلى حد بعيد ولكن مع إنعدام الكفاءة عمل منظمة الأمم المتحدة التي تجمع تحت لوائها أمم متنافرة المصالح وأحيانا ذات عداء لبعضها تضطر للجلوس وتنظيم مصالحها في حيز سياسي معرفاً سلفاً، لذلك ليس للأمم المتحدة سلطة على أعضائها إلا من خلال توافق الكبار في مجلس الأمن، وهو وضع شبيه لما يحصل مع الطوائف الكبرى في مجالس الوزراء اللبنانية مع فارق أساسي هو أن الأمم المتحدة تحكمها دول كبرى تتحرك بمرونة عالية الكفاءة ولكن وفقاً للقانون الدولي فيما يُحكم لبنان بعدم مراعات للقانون.

إن الدولة الحديثة بمفهومها L’Etat providence (الدولة ـ العناية) هي مجموعة مرافق عامة كناية عن أنشطة ذات نفع عام تمارسها إن بالمباشر أو بالإشراف تتمتع بمميزات السلطة العمومية.

من هنا، ليس كل نشاط تقوم به السلطة العامة بالضرورة مرفقاً عاماً إلا إذا حوى عناصر ثلاث وهي: أن يكون ذات نفع عام (فالمرفق العام غايته تأمين منفعة عامة). أن يخضع هذا المرفق لرقابة الإدارة إن مباشرة أو بواسطة جهاز يتمتع بشخصية معنوية وتبقي لنفسها سلطة الوصاية عليه. أن يتمتع هذا المرفق بامتيازات السلطة الممنوحة لأشخاص القانون العام كفرض الرسوم مثلا..

والمرفق العام بحد ذاته تحكمه مبادئ ثلاث : مبدأ إستمرارية المرفق العام ومبدأ التطوير المستمر له ومبدأ المساواة أمامه.

١ـ إن نشوء المرفق العام كحاجة مكان مبادرة الأفراد الحرَّة، يكون نتيجة عدم إمكانية تلك المبادرة تأمين إستمراريَّة الخدمة حيث هذه الإستمرارية هي أساس وجوهر المرفق العام. لكن نحن اليوم في لبنان أمام تعطل المبادرة الفردية لاستمرارية المرفق العام وتعطل الخدمة العامة بذاتها حيث تحوَّلت إلى هياكل فارغة.
جيوشٌ من الموظفين والإداريين عاجزين عن تقديم الخدمة العامة ناهيك عن إستمرارها، إدارات كبرى يشغلها موظفون بالتقنين ليوم واحد أسبوعياً وإضرابات تمنع إستمرارية الخدمة العامة رغم حظر القانون لها.

٢ـ لما كانت الحاجات العامة للأفراد متطورة ومتغيرة باستمرار، فإن السلطة المنوط بها إدارة وتنظيم المرافق العامة تسعى دائماً لتطوير وتغيير هذا المرفق من حيث أسلوب إدارته وتنظيمه وطبيعة النشاط الذي يؤديه بما يتلاءم مع الظروف والمتغيرات التي تطرأ على المجتمع.
والحال أنَّ الدولة شبه المُفلِسة قد وصلت إلى ما وصلت إليه بسبب الإنفاق على الشكليات والإبتعاد عن الإنفاق الضروري للتماشي مع حاجات العصر، إذ شهدت مرحلة ما بعد الحرب إنفاقاً حكومياً واسعاً ناهز الثلاثمائة مليار دولار على مدى ٢٨ عاماً وراكمت ديوناً واعباءَ نرزح تحت وطأتها حتى اليوم، إنَّ جُلَّ ذلك الإنفاق ذهب لإعادة تدوير إقتصاد ريعي غير منتج من خلال النفقات الجارية لا الإستثمارية التي تزيد القدرة على الطلب الكلّي دون زيادة موازية في الناتج الوطني بما أدى في نهاية المطاف إلى تلك الفحوة في ميزان المدفوعات بسبب الزيادة الجنونية في الإستيراد التي استهلكت ودائع الناس وجنى أعمارهم.
نحن نقف اليوم بعد ثلاثين عامٍ من مشروعِ إعادة الإعمار أمام بلدٍ فارغٍ من أي عنصر من عناصر الإستدانة يقف عاجزاً عن حلِّ أية مشكلة. مؤسسات ضخمة بفعالية منعدمة، لا يوجد أي صمام أمان تم بناؤه تبعاً لمستويات هذا الإنفاق العالية لمواجهة أيام القحط: بنية تحتية، ماء، كهرباء، إتصالات، مطار، مرافئ، طرقات، بنوك، سوق مالي، مؤسسات سياسيّة.. كل ذلك في تهالُكٍ مُريب.

٣ـ يجب أن تلتزم الجهات القائمة على إدارة المرافق العامة بأن تؤدي خدماتها لكل من يطلبها من الجمهور الذين تتوافر فيهم شروط الاستفادة منها دون تمييز بينهم بسبب الجنس أو اللون أو اللغة أو الدين أو المركز الاجتماعي أو الاقتصادي، إنه مبدأ المساواة أمام المرافق العامة، الذي يستمد أساسه من الدساتير والمواثيق وإعلانات الحقوق التي تقتضي بمساواة الجميع أمام القانون دون تمييز بينهم.
لقد اندلعت الحرب الأهلية لأسباب متشابكة، كان منها دعوى سيطرة طائفة على طائفة، وانتهت الحرب على اتفاق جديد لتوزيع السلطة سَلَبَ حقوق كل الطوائف واحتكر الحق بيد القلّة، فئة الواحد بالمئة من المتنفذين في السلطة والمتنفذين في المشاريع، رجال فوق السلطة وفوق القانون، هرَّبوا أموالهم واحتجزوا أموال الشعب والمغتربين، عطلوا القضاء ووضعوا التشريعات المفصَّلة على قياسهم مجمِّدين كلّ ما عداها من قوانين ملحَّة لتسيير شؤون الشَّعب وصون حقه.

هي دولةٌ تحلَّلت عناصرها وتهالكت مرافقها العامة: شعب منقسم على نفسه، سلطة دون صلاحيّة، وأرض كل من يولد فوقها يطمحُ لهجرِها.
فودّعوا وطناً وانتظروا وطناً جديداً عسى أن نكون تعلّمنا فيه من عظيم مصائبنا.